(جميلُك يا شامُ.. – د. خالد تركي (حيفا

يقول الخطيب والبليغ والحكيم قسُّ بن سعد من قبيلة إياد بنجران في خطبته الشَّهيرة في سوق عكاظ، في معشر بني إياد: إنَّه من عاشَ ماتَ ومن ماتَ فات..

وهناك مثلٌ عربيٌّ يقول: من خلَّف ما مات..

ويقول النَّبي داود في مزاميره: الإنسانُ مثلُ العُشبِ أيَّامُه. كزهرِ الحقلِ كذلك يُزهِرُ. لأنَّ ريحًا تعبُرُ عليه فلا يكونُ، ولا يعرِفُهُ موضِعُهُ بعدُ.

لكنَّ المناضل داود تركي يقول في رثاء ثائرٍ، استشهد على اسوار عكَّا، في نكبتها، البطل أحمد شكري منَّاع، في ديوانه “ريح الجهاد”:

ما مات من خلِدت مآثرُه بل ماتَ من سفِلَت به الشِّيمُ

سيظَلُّ للأحرارِ مفخرةً ومنارةً في الفكرِ تنتظمُ

فالمجدُ للشُّهداءِ يهتِفُها رجلٌ بدنيا الظُّلمِ يصطدِمُ

كذلك المطران هيلاريون كبوتشي في رحيله بعد انتهاء رحلته النِّضاليَّة الكفاحيَّة على هذه الأرض، يبقى خالدًا في ذكرِهِ وعطرًا في ذكراه حيًّا في ذاكرتنا.

في لقائهما الأوَّل في سجن الرَّملة، حين دخل المطران كبوتشي الأسرَ، نظَّم له المناضل داود تركي، ابو عائدة، استقبالاً مهيبًا، يليق بالأبطال والشُّرفاء، وحين غادرنا المطران إلى الرَّفيق الأعلى كان داود تركي في اسقباله هناك، في فردوس الثُّوَّار والأحرار والأبرار وكأنَّهما على موعد دومًا..

جمعهما السِّجن وفلسطين وبلاد الشَّام والعروبة، تاريخًا وحاضرًا ومستقبلاً وهدفًا واحدًا

في عدالة الطَّريق وصواب المسار وصدق المسيرة التَّحرُّريَّة لِكَسر قيود أسرِ الأسرى والوطن بجميع ابعاده والذي تمثَّل في دعم المقاومة الشَّعبيَّة في بلاد ترزح سنين تحت احتلال بغيض ومقيت..

قاوَمَ، لم يُساوِم ولم يُسالِم ولم يهادن ولم يزاود، عرف آلام شعبه، داءه ودواءه..

في إحدى المناسبات النِّضاليَّة، داخل الأسرِ، كتب المطران لرفيقه داود ما يلي:

إلى الأخ العزيز داود التُّركي المحترم، عربونًا لمعزَّتي وتقديري وشكري، مع الدُّعاء والبركة..

هيلاريون كبوشي في 22.11.1975. رئيس اساقفة قيصريَّة فلسطين شرقًا.

بهذه الكلمات كتب المطران هيلاريون كبوتشي على صورته الشَّخصيَّة، وقدَّمها

للمناضل والشَّاعر داود تركي، ابو عائدة، تتويجًا لعلاقتهما الوطيدة وعربونًا لمعزَّته وتقديره ودعمه ومحبَّته وصداقته ورفاقيَّته على طريق الحقِّ والنِّضال والعدل وتحرير الأوطان، بعد ان التقيا في سجن الرَّملة، في تلك الفترة.

رحلا وبقي الإهداء شاهدًا عليهما، كما قال الشَّاعر:

الخطُّ يبقى زمانًا بعد كاتبه وكاتبُ الخطِّ تحت الأرض مدفونا

رحلا بعد أن منحا شعبهما العربيِّ حياتهما في سبيل عزَّة الوطن وحرِّيَّته واستقلاله إنَّها تضحية جسيمة قلَّ رجالها، فكانا ايقونتين على صدر الشَّعب الصَّامد، وعينين في خريطة الوطن، ونجمتان في سمائه ينيران هدفهما، حرِّيَّة الأرض وعزَّة الإنسان..

رحلا عنَّا بعد ان اختارا تاريخ الرَّحيل، فقد اختار المطران رحيله رأس السَّنة الميلاديَّة وذكرى انطلاقة الثَّورة الفلسطينيَّة وذكرى انطلاقة الثَّورة الكوبيَّة، بينما اختار داود تركي رحبله في الثَّامن من آذار ذكرى انتصار الثَّورة السُّوريَّة، ثورة الثَّامن من آذار المجيدة، التي نجح فيها الشَّعبُ العربيُّ السُّوريُّ في الإنتصار على حكومة الإنفصال، التي أفشلت نواة الوحدة العربيَّة، الجمهوريَّة العربيَّة المُتَّحدة، برئاسة القائد الفذِّ، جمال عبد النَّاصر، لقد دحرت الثَّورة حكومة الانفصال واستلم حزب البعث العربيِّ الاشتراكيِّ السُّلطة في سورية..

رحلَ المطران بعد أن أثلج انتصارُ حلب صدره واطمأنَّ قلبُه على بلدهِ وعاد مسقط

رأسه إلى حضن أمِّه سورية وعاد المطران إلى أحضان سيِّدنا خليل الرحمن..

ودحر الجيشُ العربيُّ السُّوريُّ عصابات الإرهاب والتَّكفير وحرَّر شهباء العروبة..  “حلبٌ مقامُ الحقِّ مسقطُ رأسِهِ فيها يُشَعشِعُ نورَه الرُّوَّادُ” (داود تركي)

اعتادت ادارة السُّجون في الأعياد دعوة رجال الدِّين، كلٍّ في عيده، لكي يُصَلِّي ويعظ ويكرزَ ويئمَّ بالمساجين والأسرى، وحين حلَّت الأعياد المسيحيَّة، للرُّوم الكاثوليك، رفض المناضل داود تركي بعد أن نظَّم جميع رفاقه الأسرى، السَّياسيِّين العرب، على اختلاف دينهم وطوائفهم ومذاهبهم، بأن لا يُشاركوا في الصَّلاة وأن لا يقفوا وراء ايِّ كاهنٍ، كائن من كان، إذا لم يكُن المطران هيلاريون كبوشي، في قيادة الصَّلاة، فكان لهم ما أرادوا، وبقي المطران مطرانًا، رغم أنفهم، وكان احترامه محفوظًا عند جميع الأسرى، حتَّى أنَّ الأسرى المسلمين، أيضًا، كانوا يُنادونه يا “أبونا”، أخوة في الدَّم والمصير لا يُفرِّقهم دينٌ ولا يُباعدُهم حدٌّ، فقد ترَكَ بذْخ الحياة ورفاهية رتبته الدِّينيَّة المرموقة مكانًا وزمانًا، وحمل صليب شعبه العربيِّ على ظهره في درب الآلام وتابع مآسيهم وساهم في نصره صلاةً وعملاً وفعلاً ليرفع الغبن والضَّيم عنه، لقد رأى كهنوته وخدمته لرعيَّته ورسالته ودعوته الإلهيَّة، في خدمة شعبه وحمل صليب عذاباته ووضع إكليل شوك على رأسه..

وذات مرَّة جاءه اسيرٌ اراد أن يُعبِّر عن تقديره للمطران فقال له: خسارة أنَّك لستَ

مسلِمًا يا أبونا!

حين التقيا أوَّل مرَّة قال له أبو عائدة:إنَّني أخاطبك بيا سيِّدنا، بسبب دعمك للنِّضال وليس بسبب رتبتك الكنسيَّة، و”كرمال عين تكرم مرج عيون”..

وتابع يقول له إنَّ على رجال الدِّين أن يقفوا إلى جانب قضايا شعبهم وعليهم أن

يجسُّوا نبضه ويعرفوا حسَّه ويخفِّفوا من معاناته، ويُداووا جراحه وآلامه! فوافقه المطران قائلاً: إنَّ كلمات المسيح هي التي أرشدتني إلى طريقي هذا.

يذكر داود تركي في مذكَّراته “ثائر من الشَّرق العربيِّ (مذكَّرات)” ص 121: في الأوَّل من تشرين الثَّاني من العام 1977، أُطلق سراح المطران كبوتشي..وقبل صعوده إلى الطَّائرة التي أقلَّته إلى روما، ركع وقبَّل أرض المطار وطلب من الله أن يُعيدَه إلى الأراضي المُقدَّسة..تأثَّرنا من علاقته بالأرض والوطن.

بعد أن تحرَّر مطران العروبة من الأسر في العام ثمانية وسبعين من القرن المنصرم، متوجِّهًا إلى مكان إقامته الجديد، الفاتيكان، زار مسقط رأسه، حلب، في ثمانيناته وأقام اهل الشَّهباء الصَّلاة، احتفاءً به في مطرانيَّة حلب، ومنحوه ترأُسَ القدَّاس، وحين حان موعد اذان المغرب، طلب المطران من أحد الشُّيوح الذين حضروا القدَّاسَ الاحتفاليَّ ان يرفع الأذان من على منبر الأسقفيَّة، فرفع الأذان بمشاركة المطران!

لقد كرَّمه المناضل داود تركي بقصيدةٍ عموديَّةٍ، دائيَّة من أربعين بيتًا، من بين أبياتها:

مطرانُ قدسِ العُرب جلَّ وفاؤه والبذلُ وانعدَمَت له اندادُ

فمن العروبةِ روحُهُ وصفاؤها ومن الحقوق سعيرُها الوقَّادُ

يحنو على اهلٍ تشرَّد جمعُهم ولأجلهم يرِدُ العذابَ جوادُ

كان دائمًا ملتزِمًا بقضايا شعبه، إذ كان يطلبُ بإلحاح الانتقال إلى قسم السُّجناء السِّياسيِّين، لكنَّ طلبه كان يُرفض. كان خلال فترته في سجن الرَّملة في القسم الانفراديِّ، بعيدًا عن السِّياسيِّين. ولذلك نظَّم رفاقه في السِّجن إضرابًا عن الطَّعام تضامنًا معه، لمدَّة يومين، الأمر الذي شجَّعه ورفع من معنويَّاته، وعرف أنَّ شعبه يُقدِّر تضحياته. ويتابع داود تركي في قصيدته:

حيَّتك من قلبِ الظَّلام وقيدِهِ نِسَمٌ تعاني صبرَها الأضدادُ

من كلِّ أديانِ العروبةِ شدَّها وطنٌ وهمٌّ واحدٌ وجهادُ

جمَعَ النُّفوسَ على اختلافِ مذاهبٍ ألمٌ ضوَت لبليغهِ الأجسادُ

سنظلُّ في دربِ الكفاحِ بواسِلاً حتَّى يتمَّ تحرُّرٌ ومُرادُ

 وحين اعتلى الرَّفيق داود تركي إلى رفيقه الأعلى كتب فيه مطران العروبة مُعزِّيًا في برقيَّته من الفاتيكان:

طود كجبل حزُّور مرتع حياته كان وما زال، صمد في وجه الأنواء والعواصف، قاوم وعارك الظُّلم والظَّالمين، وخرج من غياهب سجون مرفوع الرَّأس عالي الجبين، وخاض الكثير من الإضرابات عن الطَّعام، وتحمَّل العقاب الانفراديِّ لقهره، لكنَّهم لم ينجحوا في ثنيِهِ عن مبادئه، وعاد إلى عروس الكرمل دون ندمٍ أو اعتذار..

عندما عُقد مؤتمر جنيف الثَّاني في سويسرا في العام الفين واربعة عشر حضر المؤتمر ملتحفًا بالعلم العربيَّ السُّوريَّ، وقد حاول المؤتمرون منعه دخول القاعة، لأنَّه مُنِعت فيه رفع أيِّ علَم، فقال لهم المطران: “قراركم هو عدم رفع أيِّ علم على طاولات المؤتمرين أو في أماكن إقامة الوفود أو على السَّاريات أو على السَّيارات..تستطيعون منع رفع الأعلام في أيِّ مكانٍ هنا، تريدونه، لكنكم لاتستطيعون منعي من رفع علم بلادي على عنقي”!

وأقول للإياديِّ ابن نجران: طوباك يا نيافة المطران هيلاريون كبوشي يا ابن شهباء العروبة، حلب، وطوباك يا سليل بيت الشَّرف ومخلِّص البشريَّة من الظُّلم والاستعباد والكراهية والضَّغينة، طوباك يا ابن من نزلت فيه الآية الكريمة ﴿والسَّلام عليَّ يومَ وُلِدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعَثُ حيًّا﴾ فإنَّك لم تمُت..

فنم قرير العين يا سيِّدي، لأنَّ الثَّالوث المقدَّس قد اكتمل فيك بين حلب والقدس وبيروت، في جسد الوطن الواحد..

وأقول لمن قال: من خلَّف ما مات، نحن كلُّنا أبناؤك وبناتك، وانَّك لم تمُت..

واسلمي لنا يا شام يا منبت الأحرار ومبعث الثُّوَّار، حرَّة عربيَّة مقاومة منتصرة داحرة آل تكفير من سعود وقطر ومفكريهم ومن أمريك وغرب ومن لفَّ لفَّهم..

فهذا الشَّيخ عزُّ الدِّين القسَّام يُضحِّي بأغلى ما يملك، حياته، من أجل فلسطين، وذلك المطران هيلاريون كبوتشي يروحُ أسيرًا من أجل حرِّيَّة فلسطين في سجونِ مُغتصبيها ولم تبخل كذلك سورية على مصرَ بفدائيٍّ بطلٍ هو الضَّابط جول جمَّال..

جميلُك يا شامُ، يا بنت الأصايل، على عيننا وعلى رأسنا إلى أبد الآبدين..

وقلبي معك يا شام إلى أبدِ الآباد..

وليبقَ ذكرى مطران العروبة خالدًا في أفئدة الأحرار والشُّرفاء والأوفياء الآن وفي كلِّ آن وإلى دهر الدَّاهرين..

Post Tags:

Total Comments ( 3 )

Leave a Reply to وضحى Cancel reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*