في ذكرى وفاة ليبوفيتش، من النشوة الى القومية الوحشية البهيمية – جواد بولس

حلت، في الثامن عشر من شهر آب/ اغسطس الجاري، الذكرى الثلاثين لوفاة الفيلسوف اليهودي يشعياهو ليبوفيتش، الذي صارت ذكراه تحضر معنا تقريبا في كل لقاء نتحدث فيه، أنا وبعض المعارف والأصدقاء اليهود، عن واقع حياتنا، لا سيما عن الفظائع التي يرتكبها جيش الاحتلال في غزة وفي الضفة الغربية المحتلة، وعمّا ينتظرنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، وسيصل بعدنا لكل يهودي لن يقبل بحكم الطغمة الفاشية التي، كما يبدو من وقائع المشهد الراهن، ستتحكم في مقاليد الحكم وستتصرف كما تصرف كل نظام “فاشي بهيمي”؛ وهما الصفتان اللتان توقع البروفيسور ليبوفيتش، بعد انتهاء حرب حزيران 1967 مباشرة وبسبب نتائجها ، أن يصير عليهما المجتمع الاسرائيلي وجيشه. كانت اسرائيل تعيش نشوة انتصارها على العرب، أو بالأحرى على بطل العروبة وباني حلم امتها بالوحدة العربية، جمال عبدالناصر؛ وكنا، نحن المواطنين الفلسطينيين، خارجين من كابوس الحكم العسكري، الذي أخضعتنا حكومات اسرائيل لأنظمته منذ عام 1948 ولغاية العام 1966، لنواجه بعده وخزات النكسة وهي تنقط ذلّا في مساماتنا. كان صوت ليبوفيتش وكمشة من اليهود المعارضين للاحتلال، في تلك الأيام، مثل همسات ساحرة في ليالينا الحائرة. كان ليبوفيتش متدينا وصهيونيا، لكنه صار هدفا لهجمات غالبية الاسرائيليين بسبب مواقفه من الاحتلال وتنبؤاته عن تأثيراته الكارثية على المجتمعات اليهودية وخراب دولة إسرائيل، حتى ان البعض أطلق عليه اسم “نبي الغضب”. لم تثنه التهجمات، فتمسك بمبادئه وثابر على اشهارها من على كل المنصات بصرامة وباصرار يليقان بفيلسوف عرف أن عبادة الله لا تستوجب عبادة الحجر ولا تقديس التراب ولا الجيش ولا اذلال سائر البشر.  

لو كان ليبوفيتش على قيد الحياة اليوم لكان يعتبر العدو الأول والأخطر للتيارات الصهيونية القومية والدينية ولعقائدها المسيانية والمتزمتة عرقيا، لاسيما لايمانها المطلق بقدسية الأرض وفوقية الجيش والانتماء القومي، وكذلك بسبب موقفه من ضرورة فصل الدين عن الدولة.

 أذكر أننا كنا نستدعيه ليحاضر في نشاطاتنا الطلابية الاحتجاجية في الجامعات. كان يحضر وسط معارضة المجموعات اليمينية الفاشية الصاخبة ومحاولاتهم تعطيل محاضراته ومحاصرته، ويقف أمامهم بعنفوان وبدون خشية ويؤكد في كل مرة على ما أعلنه بعد الحرب مباشرة بأنه : “لن تكون إسرائيل دولة ديمقراطية ما دامت دولة محتلة؛ والنشوة القومية التي أصابت شعبها بعد حرب حزبران ستكون مؤقتة وسوف تحولهم الى أبناء لقومية فوقية متشاوفة، ثم إلى أبناء قومية متطرفة ثم الى أبناء قومية متوحشة بهيمية”. 

لا أعرف اذا سمعَت أجيال هذه الأيام بتاريخ هذه الشخصية الاستثنائية وبراهنية مواقفه رغم مرور السنين ، ومنها على سبيل المثال: معارضته لابعاد حكومة يتسحاك رابين قادة حركة حماس إلى منطقة”مرج الزهور” في العام 1991،  ومهاجمته لأنشطة وحدات المستعربين، وندائه لرفض الخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة، وقناعته أن استمرار احتلال اسرائيل للفلسطينيين سيفضي بدون شك إلى قيام جيش الاحتلال بممارسات تشبه ممارسات النازيين، حتى أنه وصف في العام 1987 قرار “لجنة القاضي لنداو”  السماح بتعذيب الأسرى العرب  خلال التحقيق معهم بهدف منع عمليات “ارهابية” بأنه قرار “يودو نازي”. انها غيض من فيض سيرة مفكر رسم مسيرة أبناء شعبه وهم يتخلون عن انسانيتهم على مراحل؛ أو كما توقع : نشوة نصر عسكري، ففوقية قومية عمياء، فقومية وحشية وبهيمية. لقد رسمها ورحل في العام 1994 وتركنا نواجه تحقق نبوآته هناك في فلسطين المحتلة وهنا داخل اسرائيل المختلة.  

قبل أيام تعمدت قيادة جيش الاحتلال الاسرائيلي الاعلان عن شروعها بحملة عسكرية واسعة تشمل محافطات شمالي الضفة الغربية ومناطق غور الاردن؛ وكأن هجمات الجيش المكثفة منذ السابع من اكتوبر الماضي على تلك المناطق وسائر المدن والقرى الفلسطينية كانت مجرد عمليات “تأديبية”رغم أنها أوقعت 660 شهيدا على الأقل، وأكثر من خمسة آلاف جريح، الى جانب تدمير المباني والبنى التحتية في عدة مناطق وأحياء مأهولة. يخطىء من يحسب أن الاعلان الاسرائيلي عن بدء الحملة الراهنة وابرازها كأحد أشكال المواجهات العسكرية التي تخوضها اسرائيل على سبع جبهات هو مجرد تعبير عنجهيّ مختلف يأتي في سياقات تكتيكات المواجهات النفسية التي يألفها الفلسطينيون ويدركون مراميها؛ ويخطىء من لا يضع هذه الخطوة في خانتها الصحيحة على مخطط حكومة إسرائيل الحالية وما تضمره لمستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967 وسكانها الفلسطينيين؛ ويخطىء من لا يتأهب لمواجهة المرحلة القادمة بقرارات معدّة ومدروسة مسبقا وليس عن طريق انجرارات عاطفية بطولية، أو ردّات أفعال اضطرارية بدون استشراف النتائج التي يتوخى الاحتلال تحقيقها ضمن رؤيته الاستراتيجية الواضحة. 

قد ننتفع في هذه العجالة إذا عدنا وذكّرنا بالوثيقة التي أعدّها الوزير بتصلئيل سموطريتش عام 2017 تحت عنوان “خطة الحسم، مفتاح السلام موجود بايادي اليمين”  وقصده طبعا حسم الصراع معنا كفلسطينيين، كل الفلسطينيين. لقد كانت رؤية مستقبل المنطقة واضحة عند معسكره دائما، وكانوا ينتظرون اختمار الشروط لتنفيذها. بعد الانتخابات الأخيرة، وقعت الواقعة وباشرت القوى اليمينية بتنفيذ انقلابها على السلطة والبدء بتنفيذ “خطة الحسم”.   

ووفقا لهذه الخطة تفترض أركان الحكومة الاسرائيلية الحالية أن السلام مع الفلسطينيين هو أمر مستحيل، وهم لا يؤمنون بحل الدولتين، بل يؤمنون بضرورة تغيير الوقائع على الأرض واتمام ضم المناطق الفلسطينية وتخيير الفلسطينيين بين البقاء في “يهودا والسامرة” ليعيشوا في جيوب سكانية تخضع للسيادة والحكم الاسرائيليين، أو هجرة من لا يرغب منهم بهذا، وعندها ستساعدهم اسرائيل وتسهل عملية هجرتهم؛ أمّا الخيار الثالث، فسيواجهه من لا يقبلون بالخيارين المذكورين، اذ حينها على الجيش  الاسرائيلي “أن يعرف كيف يهزم الارهابيين في زمن قصير؛ قتل من يجب قتله وجمع السلاح حتى الرصاصة الأخيرة واعادة الأمن لمواطني دولة اسرائيل”.  

لم تكن هذه الحكومة بحاجة لما جرى في السابع من اكتوبر كي تمضي في تنفيذ “خطة حسمها ” للصراع ، لكنها وظفت ما جرى لتبرير حربها على غزة  من أجل تدميرها وتهجير أهلها أو على الأقل ضمان عدم قدرتهم على استعادة شروط حياتهم الطبيعية. وكذلك لتبرير تصعيد عملياتها العسكرية في الضفة المحتلة مدّعية بأن ايران، بعد الخسائر الاستراتيجية التي منيت بها في غزة وفي الجنوب اللبناني، تحاول تعزيز وجودها في الضفة وتزود جيوب المقاومة بالمال وبالعتاد العسكري. انها سياسة اسرائيلية خبيثة وخطيرة نجحت، على ما يبدو، أن تفرض، ولو مؤقتًا، على فضاءات الضفة الغربية الملتبسة أصلا، خطابا سياسيا جديدا. فاسرائيل تحاول أن تلفّع الحالة النضالية الفلسطينية بالثوب الايراني بهدف حصر الصراع في بعده الديني واخراجه من دائرته التاريخية الصحيحه كصراع قومي. وهي بهذه الحالة تحاول أن تستنسخ بعض عوامل الواقع الغزي ومفاعيله على أمل لديها أن يؤدي ذلك الى زج الضفة الغربية في حالة نضالية غير ثابتة وخلافية، خاصة والجميع يعلم بأن الضفة الغربية تمر في ظروف معقدة وصعبة بسبب غياب الوحدة الفلسطينية المرجوة طبعا، وغياب القرار الفلسطيني المجمع عليه، لا سيما في مسألة المواجهات المسلحة مع جيش الاحتلال . 

 لا يغيب عن إسرائيل بالطبع موقف الأنظمة الحاكمة في معظم الدول المؤثرة على تداعيات الأحداث الكبيرة في العالم وفي منطقتنا تحديدا؛ فمعظم هذه الدول تقيم وترتكز على محور الدائرة الاسرائيلية الامريكية؛ بينما، على الجبهة المقابلة، تحاول روسيا أن تتحرر من تعقيدات وتحديدات صراعها مع اوكرانيا بيد أنها لم تتحول فعليا إلى عامل مضاد قادر على ترجيح موازين النتائج أو الأرباح؛ ومثلها نجد الصين التي تحاول بدورها أن تزيد من وزنها عالميا، وتأثيرها في قضايا الشرق الأوسط من خلال محاولات رأب الصدع الفلسطيني، وهي تعرف أن تلك هي غاية شبه مستحيلة أو مهمة أصعب من ادخال جمل في ثقب ابرة !  فالى أين يتجه الفلسطينيون ؟ 

لتكن عودة على بدء     

ليتهم  يتذكرون ما قاله  ليبوفيتش، وهو من كان في شعاب قومه أعلم؛ لقد عبروا مرحلة النشوة وأوصلهم احتلالهم إلى ضفاف “خطة الحسم” وهم في حالة من “الوحشية والبهيمية”،  فهل يتعقلون أولا ثم يتفكرون ثم يتوكلون  !  

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*