نافذتي تُطلُّ على البحر والصَّيَّاد والسَّمكة والصِّنَّارة – د. خالد تركي حيفا

لم أتعرَّفُ عليه من خلال نادي حيفا الثَّقافيِّ، منارة الأدب والثَّقافة، لكنِّي تعرَّفتُ علين منذ أن كان زميلي العزيز على مقاعد الدِّراسة في الثَّانويَّة، في الكليَّة العربيَّة الأرثوذكسيَّة، بحيفا، وكان وما زال رفيقي في الجبهة الدِّيموقراطيَّة للسَّلام والمساواة، طريقًا وهدفًا ودربًا وأملاً ورجاءً، فهو المحبُّ للغةِ والشَّغوفُ بالأدب والثَّقافةِ والمساعد في نشرها والقارئ النَّهمُ، هو الاستاذ والمحامي، مدير ومؤسِّس نادي حيفا الثَّقافي، فؤاد مفيد نقَّارة..

لقد لفتَ انتباهي إهداؤه، لكتابه الجميل الجديد “صيَّاد..سمكة وصنَّارة” وكأنَّه بي يكتبني ويقرأني.

لقد أهدى كتابه، ثمرةَ قلمِهِ، لوالده الذي وصفه بمعلمه الأوَّل وصاحب الفضل الأوَّل عليه، فقد عَرفتُ من خلال الإهداء مدى حبِّه لوالدهِ واحترمه له، يحفظُ له حقَّه عليه، وعرفتُ مدى عظمةِ عشقِهما للبحر والصَّيدِ والسَّمك، الذي حاول بنجاح باهر وفنٍّ قديرٍ أن يترجم هذا الحب والعشقِ لكلمات تشقُّ عباب الأوراق وتسبح بين لُججها تحدِّيًا وكأنِّي أرى والدي شاخصًا أمامي، أمرُّ معه صفحةً بصفحةٍ على أنواع السَّمك المختلفة مُعجَبين جدًّا بما أتى به زميلي فؤاد من صور جميلة ومواد كتابيَّة وطوابع بريديَّة تُزيِّن خاتمة الكتاب..

يكتُب عن والده العزيز أبو فؤاد:

“علَّمني والدي فنَّ الصَّيد بصبرٍ وحنانٍ، شارحًا لي أسرارَ البحرِالعجيبة وكيفيَّة قراءة طبيعتهِ وفهمهِ، كان ينتظر بصبرٍ لحظةَسحبِ الصِّنَّارة، مشاركًا إياي فرحةَ الصَّيد عندما تُثمر جهوده”..

لقد كان والدي يقول لي إنَّ البحرَ كريمٌ وخيِّرٌ وسخيٌّ وجوادٌ كالأرضِ الطَّيِّبة، كلُّ شيئٍ في البحر يؤكَلُ، حيث كان مركز سباحتنا في تلِّ السَّمك، في منطقة وادي الجمال، شاطئ إميل البوتاجي، حيث كان والدي يغطسُ مع كمامته ويُخرج لنا التوتياء والبطلينوس، وغيرها من الصَّدفيَّات أو الأصداف البحريَّة حيث كنَّا نأكلها طازجةً من البحر إلى الفمِ، ومن الصَّخر إلى البطن، وأحيانًا كانَ يصطحبُني معه إلى شاطئ كفر لام أو عتليت جنوبيِّ حيفا، لاصطياد السَّمك، وكان طُعم السَّمك من حبَّات القريدس، حيث كنَّا نستعملُ حبَّة قريدس لصيد السَّمك وأخرى كنَّا نأكلها، وكانت أداة صيده إمَّا القصبة أو الجرجيرة أو قصبة الماكينة..

البحرُ هو أبُ الفقراءِ بخيرِهِ وجودِهِ وكرمِهِ..

والأرض هي أمُّ الفقراءِ بعَطائها وسَخائها..

ومنه تعلَّمنا حبَّ البحر والسَّمك والصَّيدِ والصَّبرِ وكلِّ ما يخرج من هذا البحر الطَّيِّب الحبيب..

لقد جاء في القرآن الكريم: 

﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ..﴾..

هنيئًا لنا ببحرنا وبرِّنا وأرضنا..

لو أنِّي رأيتُ الكتاب قبل طباعته ونشره، لأشرتُ إلى رفيقي فؤادبملاحظتي بكتابة اسماء الأحفاد، الذين تمَّ نشرُ صورهم، من على صفحات هذا الكتاب لأنَّها عيِّنات للمستقبل يفتخرون بهالاحقًا، ويُعرِّفنا أيضًا بصورِ أحفادِه وأسمائهم.. 

لقد وضع الاستاذ فؤاد بين يدينا ثمرةَ عملٍ مُضنٍ، وتشعر كم كان عملُهُ صعبًا ومثابرًا يبيِّن فيه اهتمامَه بتزويدِنا بالمعلومات الدَّقيقة، يُثري فيها معلوماتنا الشَّخصيَّة، بعد أن سبرَ أغوار الكتب والمعاجم البحريَّة ليجمعهم في بوتقة تكون لنا على طبقٍ من فضَّة مرجعيَّة، حاضرةً نحتاجها في حياتنا..

لقد جمع في الكتاب رحلات صيده ما بين عكَّا، مسقط رأس الكاتب وحيفا، مكان سكناه، وهنا يحضُرُني ما أنشدَ الفنَّان الملتزم وليم نصَّار، فلسطينيٌّ يافاويٌّ لبنانيٌّ، من كلماته، قال باللهجة اللبنانيَّة:

ما بين عكَّا وحيفا يَمِّي

كتبتلِّكْ اشواقي   

بترابات فلسطين يَمِّي، انا ورفاقي

ونحنا شفنا العذاب يَمِّي وذقنا حلاتو 

يَمِّي يعدم حياتو.. ويلي نِسي جمُّول

(جمُّول كلمة تعني جبهة المقاومة اللبنانيَّة)

عندما بدأتُ بقراءة الكتاب في باب الأسماك استحضرتُ مسرحية “بترا” لفيروز والأخوين رحباني، حين أتى المملكة المحتالان الرُّومانيَّان لايوس وبتريكوس، اللذين إدَّعيا أنَّهما من مدينة صور،ليودِعَ كلُّ واحدٍ منهما أمانته في خزينة “بترا”، وبدأ عيَّاش، المعلِّم والعالم البحريُّ، يمتحنهما، ليعرفَ إذا كنا فعلاً من مدينة صور،أم أنَّهما من مكانٍ آخر، عن أنواع السَّمك حين سألهما عن اللقُّز واللبُّس والغبُّص والترَيخون، لكنَّهما فشِلا في الإمتحان، وبقيا تحت مجهر ورقابة المملكة، لكنَّهما استطاعا خطف الأميرة “بترا”والبقية تعرفونها (راجعوا مسرحيَّة “بترا” للرَّحابنة)..

لفت نظري أسماء بعض أسماك البحر حَبَطرَش، دقُّور، عطعوط، 

بحلق، والقملة..

فتقول حبطرش مثلاً لتعبِّر عن كثرة عدد الأشياء، هناك الأشياء مكوَّمة حبطرش وعلى قفا مين يشيل، مع أنَّ وجود سمك الحبطرش في البحر أصبح نادرًا..

سمكة الدَّقُّور هي وحش صغير في قاع البحر، وهي كلمة تُقال للإنسان الذي يناقشك في كلِّ كلمة، وكلُّ ما تقوله لا يُعجبه، “بدقِّر معك على كلِّ كلمة”، ونقول لا تكن دقورًا..تكُنِش دؤور، ونقول دقَّرت أو دأَّرت معه..

أمَّا سمكة العطعوط أو عريان البحر، فهي سمكة نحيفة مفترسة وسريعة ونقول عن الإنسان، في اللغة الدَّارجة، شديد السُّمرة معطعط، والله مش قليل هالعطعوط..

أمَّا سمكة بحلق، فنقولُ بحلق عيونَه، أو بحلص عيونو “بحلق الشَّخصُ حدَّق؛ نظر نظرًا شديدًا”..

أمَّا القملة فهي كلمة معروفة، فهي سمكة تنتمي إلى الطُّفيليَّات التي تعتاش على بقايا فضلات الأسماك الكبيرة كالقرش والحيتان أو السَّلاحف والتُّرَّس..

حين كنَّا نصطاد سمكة العرَيْسي أو عروسة البحر، كان والدي يُعلن لأصدقائه من الصَّيَّادين، ويُناديهم يا الله يا شباب فش سمك اليوم، حيث كان اعتقاده أنَّ صيد العريسي معناه فش سمك، كلُّ الأسماك ترهبُ جمالها وحسن منظرها وتختفي خجلاً..

حين بدأ زميلي يُعرِّفُنا على السُّلحفاة البحرِيَّة أو التُّرَّسي، مع تصويرٍ جميلٍ لهذا الحيوان البحريِّ وعن أنَّ دمَها يُستعملُ لعلاج بعضِ الأمراض، ذكَّرني في طفولتي في حيِّ وادي النِّسناس، حين سمعنا أنَّ أحد الجيران كان قد اشترى تُرَّسي بحريَّة لذبحها، حتَّى يشربَ والدُه المريضُ من دم هذه التُّرسي، وقد اجتمعنا نحن الأطفال حول بيت هذا الرَّجل، بدافعِ حبِّ الإستطلاع، لم أعرف ماذا كان نوع المرض، لكن بطبيعة الحال، لم ينفعه شربُ الدَّمِ، حيث ترك فانيتَه إلى برزخِه، ما بين الموتِ والبعثِ..

كان والدي وجدِّي يُحبَّان سمك السُّلطان، سلطان ابراهيم، فيقول جدِّي أبو فوزي إنَّ سلطان ابراهيم هو ملك السَّمك وسُلطان المائدة مع كأس العرق..

يَحكي لنا زميلي فؤاد في كتابه عن مبالغة الصَّيَّادين في وصفهم لصيدهم وتضخيم الأحداث وكبر الاسماك التي يصطادونها، وكنت أسمعُهم يقولون والله حبَّات عفايا كبار أكبر من الكفِّ اليدِ ما شاء الله، أو السَّمكة تشدُّ الخيط وأنا أشدُّ الصِّنَّارة وفي النِّهاية يا جماعة الخير  والله ما بزل عليكو كانت انتياسي أكثر من خمسة كيلو، وأحيانًا حين لا يصطادُ، كان يُميِّل آخر النَّهار على المسمكة ليقتني الأسماك عائدًا إلى البيت مفتخرًا أمام الجيران وأهل بيته بصيده الوفير، طبعًا الكذب والهشت والمبالغة هي ملحُ الرِّجال، “إنَّ الصِّدقَ خيرٌ من المبالغة، مهما كانت المغريات”..

ركب رفيقي فؤاد مركبه الصَّغير ليلة يوم جمعة، بعد أن أعطاهصديقه صبِّيدن، فكان صيده بفضلِ هذا الطُّعم، وفيرًا، حوالي ثلاثين سمكة جربيدن ضخمة أو يزيد، وهو يصف هذا الصَّيد على المركب، تذكَّرتُ رحلة صيدٍ على مركب أخذنا من الميناء إلى عُبابِ البحرِ، وقبل إبحارنا أخذ كلُّ واحدٍ منَّا وجبة غذاء رغيفٍ ساخنٍ مليئٍ بالكباب الشَّهيِّ، وحين توقَّف المركب في عرض البحرِ بعد أن رمى القبطان “الرَّيِّس” مرساته في البحر، لبدء عملية الصَّيد، بدأ المركب يترنَّح ويتمايل وكأنَّه في حالة سُكرٍ يمينًا ويسارًا، أمامًا وخلفًا، وبدأت معدتي تترنَّح كما المركب أو بعكس ميلانه، لا أذكُرُ، وأصابني دوار البحر، في نوبةٍ شديدةٍ، حتَّى ارتفعت معدتي إلى فمي بما تحتويه من بقايا الوجبة اللذيذة، فما كان من والدي إلا أن يُعيدَني إلى الشَّاطئ، إلى شاطئ الأمان..

يجب إحترام البحرَ وأحوالَه، إعرف حدَّك والزمه أمام حدِّ البحر، لأنَّ البحرَ أكبرُ منكَ..

“طُوبَى لِمَنْ عَرَفَ حَدَّهُ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ طَوْرَهُ”

لقد برزَت خفَّةُ ظلِّك يا صديقي في حوارك مع العجوز على شاطئ قرية الطَّنطورة، القرية المكنوبة منذ عام النَّكبة، الذي استيقظ قبلَ رحلة صيده لقيام صلاته في كنيسة الرُّوم الكاثوليك ليدعو الله أن يرزقَه صيدًا وفيرًا، حيث لم يحالفه الحظُّ البتَّة، فما كان من صديقي فؤاد أن طلب منه، في المرَّة القادمة، قائلاً عليك الصَّلاة في كنيسة الرُّوم الأرثوذكس، لأنَّ لكلِّ كنيسةٍ اختصاصُها، فاختصاص كنيسة الكاثوليك هو الصَّيد البريُّ، بينما كنيسة الأرثوذكس تتولَّى شؤون البحر..

واكتشف العجوز حينها حقيقةً كان يجهلُها..

أضمُّ صوتي لصوتك ودعوتك يا رفيقي من أجل الحفاظ على البيئة البحريَّة منها حتى تعود السَّعادة إلى شواطئنا وتعود الأسماك والسَّلاحف والأخطبوطات والسَّلاطعين والأصداف إلى بلادنا، حتى تنعم شواطئ بحرنا ببيئة جميلة ونقيَّة ونظيفة من الشَّوائب والكيماويَّات والمواد الفاسدة ومياه الصَّرف التي تُرمى إلى شواطئنا..

وكذلك علينا المحافظة على البيئة البريَّة والجويَّة..

لقد جاء في الحديث: لا ضررَ ولا ضِرارَ..

اتمنَّى لكَ رفيقي المزيد من العطاء الزَّاهر والإنتاج الوافر..

تبريكاتي القلبيَّة العطرة للكاتب الصَّديق الرَّفيق الزَّميل فؤاد مفيد نقَّارة بصدور ثمرة قلمه “صيَّاد..سمكة وصنَّارة”..

أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ وَخَيْرُ جَلِيسٍ في الزَّمانِ كِتابُ

ملحوظة: صدر الكتاب بالتَّعاون بين نادي حيفا الثَّقافيِّ ودار الشَّامل للنَّشر والتَّوزيع (نابلس مقابل جامعة النَّجاح الأكاديميَّة)، من الحجم المتوسِّط، في مائتي صفحة، صورة الغلاف هي صورة الكاتب على شاطئ البحر بابتسامته الخجولة الجميلة، الاخراج الفنِّي سمير حنُّون (بلدة عنبتا، محافظة طولكرم، من سكَّان رام الله)، وقد قامت بإعداده وتحريره الكاتبة صباح بشير..

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*