أَوْلادِي وَأَحْفَادِي عَلَى هَذَا الطَّرِيق د. خالد تركي
- by منصة الراي
- November 14, 2022
- 0
- 926  Views
- 0 Shares

يعتزُّ المرء في نهاية كلّ سنة دراسيّة برؤية شهادة امتياز أبنائه وتفوّقهم بتحصيلهم العلميّ ونتاج جهدهم وكذلك يعتزُّ الأبناء برؤية شهادة امتياز والديهم في صنع تاريخ الصّمود والبقاء والتّضحية في صنع مجد شعبهم وحزبهم، هؤلاء الذين سطّروا بأحرف من دمٍ ونارٍ معاناةٍ وحرمانٍ ونفيٍ وإبعادٍ وفصلٍ من العمل على أنواعه وما بدّلوا وما غيّروا وما تحوّلوا عن دربهم قيْد أنملة بل بقَوا صامدين مرابطين لا يهابون العِدى ولا العسس ولا أذنابهم أو مخابراتهم الرّسميّة، بل بقَوا ينظرون بثبات وإيمان إلى أمام وباستقامة تامّة لبناء غدٍ مشرقٍ عزيزٍ وآمنٍ. رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ، رفيقات ورفاقٌ وأبناءُ كادحين، يستلمون الرّاية الحمراء من سلفهم ويُسلِّمونها، باعتزاز وكبرياء وفخار، لأجيالهم الصّاعدة فلذات أكبادهم، لخلفهم، ليكونوا على العهد وصامدون على الوعد، حيث رسموا طريقة أخرى مغايرة للتي نراها ونسمع عنها، حيث أقسموا قسمًا ثابتًا يعطي جوابًا قاطعًا ومتينًا لجميع الذين يقولون لنا أنتم شواذ وتناطحون صخر الصّوان، نردّ عليهم ونقول لهم نشيد “نحن الشّباب”:
نَحْنُ بُنَاةٌ لِلسَّلامِ نَحْنُ حُمَاةٌ لِلوِئَامِ
نَمْضِي وَلا نَخْشَى الحِمَمَ إِلَى الأَمَامِ إِلَى الأَمَامِ
نَبْنِي وَلا نَتَّكِلُ نَمْضِي وَلا نَنْخَذِلُ
لَنَا يَدٌ وَالعَمَلُ لَنَا غَدٌ وَالأَمَلُ
فقد كان رفاقنا مثلاً ورمزًا في الكفاح ومثالاً فريدًا لا توأم له في التّفاني والعمل والتّضحية وذلك بفضل رؤيتهم الواضحة على هُدى سبيلهم في المبدأ الوطنيّ والأمميّ الموجود في جيناتهم وينتقل بالوراثة حيث يرضعونه حليبًا صافيًا ونقيًّا من الشّوائب من أثداء أمّهاتهم ويشربونه ماءً عذبًا صافيًا من ينابيع رؤوس بلادنا
الشّمّاء، جيلاً ثائرًا وراء جيل، ورفيقنا أبو سليم هو عيّنة من تلك العيّنات التي نفتخر بها ونضعهم أوسمة على صدورنا وكنت قد حدّثتكم عنها في الحلقات السّابقة.
وُلِد الرّفيق حبيب سليم حاج، أبو سليم، في قرية إعبلّين، في الثّالث والعشرين من شهر شباط من العام ألف وتسعمائة وثلاثين. وقد توفّى والده حين كان عمره أربعة أعوامٍ وتولّت والدته تربيته وأختيه. أنهى الصّفّ الخامس في مدرسة القرية، وحَرد وانقطع عن الدّراسة ولَم يُتمم دراسته الابتدائيّة وذلك كردّ فعل لمعاملة مدير المدرسة القاسية والشّرسة له، فقد كان “حَاطِط حْطَاطُو، إلك الله وإلو الله” إذ كان يضربه يوميًّا دون أدنى سبب وكأنّه الطّالب الوحيد في تلك المدرسة، مع أنّه لَم يكن مشاغِبًا قطّ، بل واظب على الحضور اليوميّ، وحين كان التّلاميذ يراجعون وظائفهم البيتيّة لبعضهم البعض في ساحة المدرسة أو في البيتِ كان يجيدها على أحسن وجه، لكنّه كان مربوط اللسّان ومُقفِل الفَكَّين أمام ذلك المدير لظلمه واستهتاره بالطّالب حبيب، حيث لَم يُخرج كلمةً واحدةً من فيه حين يُسأل، لذلك ترك المدرسة وفي قلبه حسرة وفي أحشائه جمرة تنغِّص حياته إلى يومنا هذا، فبدأ يعمل مساعدًا للحرّاثين في حقول القرية وحدّادًا في منطقة الكرداني بين مدينتي حيفا وعكّا، لاحِقًا..
رُحِّلت عائلته، في عام النّكبة، مع باقي أهل القرية والتجأوا إلى قرية الضميدة لبضعة أيّام عادوا بعدها إلى قريتهم بعد أن أرسلوا بعض الأشخاص من أهل اعبلّين إلى أحراش منطقة صفّورية، حيث كان مقرّ قيادة جيش الاحتلال، رافعين الأعلام البيضاء ليسمحوا لهم بعدها بالعودة إلى أرضهم وبيتهم ورزقهم وحلالهم في قرية إعبلّين، وعادوا.
يقول رفيقنا حبيب:”لَم أفهم شيئًا في السّياسة” وعندما تعرّف على الرّفيق وديع توفيق الخوري، أبو عايد، أوّل شيوعي يراه في حياته، حيث بدأ يزورهم في بيتهم طالبًا يدَ أخته مريم، أم عايد، فقد كان يحدّثهم عن الشّيوعيّة والنِّضال من أجل حقّ العمّال والفلاحين في العيش الشّريف والكريم. أعجبت هذه الفكرة الرّفيق حبيب واقتنع بها واعتنق مبدأ العدالة الاجتماعيّة والمساواة والكفاح ضدّ الظّلم والاضطهاد والاحتلال. وانغمس أبو سليم منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا في العمل الوطني والشّعبي والأممي حيث انتسب إلى صفوف الشّبيبة الشّيوعيّة بعد النّكبة مباشرةً وتسلّم قيادة فرع الشّبيبة ليكون سكرتير فرع قريته، حيث كان الفرع تابعًا لمنطقة حيفا، ويذكر رفيقنا أبو سليم بعضًا من أوائل المنتسبين إلى فرع الشّبيبة في القرية وهم الرّفاق: كامل الطّلب نجمي وتوفيق حسني نجمي وحسن سروة الشّيخ أحمد وعطا الله العزيز وموسى حسين أسعد وفوّاز اسكندر وبديع عويّد وآخرين..
وحين عُقِد في العام تسعة وأربعين مؤتمر الشّبيبة في حيفا سافر المدينة لحضوره حيث تعرّف هناك على بعض من رفاق حيفا، إذ يذكر أسماء بعضهم: بنيامين غونين وجورج طوبي وإبراهيم تركي وكالمان ألتمان وأهارون وكذلك كان رفاق حيفا يأتون القرية لعقد اجتماعات حزبيّة، نظريّة وتنظيميّة، حيث كانوا يبيتون في بيوت الرّفاق في القرية وكانوا يجدون فيها قسطًا كبيرًا ووافرًا من الرّاحة، وكأنّهم في بيوتهم ليُتابعوا عملهم في اليوم التّالي..
لقد كان الرّفيق حبيب سليم حاج شمّاس الكنيسة في القرية، لكنّه اعتزل التّرتيل والتّشميس في الكنيسة بعد أن وافق خوري القرية مع بعض رجال دين آخرين بعد احتلال القرية، أو حتّى بإيعاز منهم كما يكتب رفيقنا أبو أنطون، نصري المرّ في مذكّراته في كتاب “جذور من الشّجرة دائمة الخضرة” لرفيقنا د. أحمد سعد على اعتقال نحو ثمانين من أهل إعبلّين، وزجّهم في سجن عكّا، إذ كيف يستوي لرجال الدّين الذين يمثّلون أهل القرية، بكلّ طوائفها، باعتقال أبنائهم ظلمًا وافتراءً.
يقول رفيقنا أبو سليم:”عندما كنّا نطلب تصريحًا من الحاكم العسكري للسّفر أو التّنقّل كان يحدّد لنا المسار الذي يجب علينا سلوكه، بحيث كانوا يسجِّلون أسماء الشّوارع التي يُمكننا المرور بها في هذه المدينة أو تلك وإن وجدونا في مكان غير الذي حُدِّد لنا كنّا ندفع غرامة ماليّة، وحدث مرّة أن طلبتُ تصريحًا للسّفر إلى مدينة حيفا لحضور دورة تثقيفيّة فيها، حتّى نتهيّأ نظريًّا لحضور مؤتمر “الشّباب الديمقراطي العالمي” في مدينة فيينّا حيث كان عليّ إحضار موافقة خطيّة من المختار عرسان، وكيف لي أن أذهب إليه بعد أن كنت قد صفعته على وجهه قبل أسبوع، حيث طار عقاله من على رأسه وهوى على الأرض، حيث نعلم ما معنى إيقاع العقال عن الرأس وبالأخصّ رأس المختار، حين شتم أهل الحارة لتعاضُدهم مع الشّيوعيّين، لكنّه، ربّك الحميد، وقّع دون كلام ناسيًا حادثة الأمس”.
ذهب، بعدها، إلى الحاكم العسكري في مدينة شفاعمرو لإصدار تأشيرة سفر إلى فيينّا وحين أعلم موظّف الحاكم، شكري مباريكي، برغبته في السّفر لحضور مؤتمر الشّباب رفض إعطاءه التّأشيرة تلك، بحجّة أنّه لا يملك صلاحيّة إصدارها فأرسله تباعًا إلى غرفة الحاكم العسكري إذ كان حاضرًا في غرفته أربعة من عملاء قريته، إعبلّين، حيث استغربوا من شجاعة أبي سليم الفتى الفتيّ، إذ كيف يجرؤ على هذا الطّلب ويعلن شيوعيّته أمام الحاكم العسكري ويطلب بجرأة تأشيرة سفر لحضور مهرجان الشّبيبة في خارج البلاد، لكنّ الحاكم منح رفيقنا تصريح سفرٍ وعيون العسس الحاقدة تنظر بعضها ببعض باستهجان واستغراب، لكنّه لَم يُسافر إلى المؤتمر لظروف عائليّة خارجة عن إرادته.
عمل أيضًا في مزارع الخنازير في القرية، وكان عضوًا نشيطًا في لجنة العمّال، ونتيجة مثابرته وتصميمه على توفير ظروف عمل أفضل لعمّال هذه المزارع قاد كفاحًا مريرًا وناجِحًا من أجل تحصيل تأمين خاصّ للعمّال حيث استطاع أن يُجنّد لهذا النّضال نحو سبعين عاملاً، واستفاد من هذا المكسب عمّال جميع مزارع البلاد.
يذكر أهل القرية حادثة، كما يذكرها الكاتب العبريّ هيلل كوهين في كتابه “عرب جيِّدون” ص 65، أنّه تمّ عرض صحيفة الاتّحاد النّاطقة باسم الحزب الشّيوعي على المطران حكيم حين كان يزور قرية إعبلّين، وذلك في شهر تشرين الأوّل من العام ألفٍ وتسعمائة وتسعة وأربعين، بعد أن خطب شاكرًا الحكومة والجيش والبوليس الإسرائيلي على مساعدتهم له، فقام رجال الشّرطة بإبعاد موزّعي الصّحيفة عن المكان الأمر الذي أدّى إلى مشاحنات كلاميّة وجسديّة حيث أبعدوهم عن السّاحة واعتقلوهم، وفي كتاب “جذور من الشّجرة دائمة الخضرة” لرفيقنا د. أحمد سعد ص 200، يذكر رفيقنا أبو أنطون، نصري المرّ في مذكّراته الحادثة نفسها بأنّه بعد أن عرض الرّفيقان راشد سليم وحبيب توفيق الخوري على المطران الصّحيفة حاولوا تحريض أهل القرية على رفاقنا بقولهم:” أنّ الشّيوعيّين ضربوا المطران في دار الخطيب الذي احترق عائليًّا” ( إذ كيف يجرؤ أحد بالاعتداء على رجل دين مسيحيّ في بيت مسلمٍ حيث أن الاهانة الكبرى أنّهم لا يقدرون على حماية ضيوفهم في بيوتهم خ.ت.)، وكان من بين المعتقلين الرّفاق: راشد سليم وراشد حبيب وعلي أحمد عثمان وعودة عبد عودة وحبيب توفيق الخوري وآخرين، زد على ذلك أنّهم وجدوا سببًا في اعتقال كلّ من آزر الشيوعيّين ووقف إلى جانبهم حيث وصل ععد المعتقلين إلى ثلاثة وعشرين معتقلاً..
ويصف الكاتب هيلل كوهين في كتابه “عرب جيِّدون” ص 239 كيف يتدخّل جهاز الشّاباك في كلّ شاردة وواردة، للحيلولة دون وصول الشّيوعيّين إلى منصب أو وظيفة أو حتّى تشكيل أيّ ائتلاف بلديّ معهم، ففي قرية إعبلّين كان يترأس المجلس البلدي عربيّ جيّد، حسب تعريف المخابرات، عرسان سليمان، وكان المجلس يتألّف من أحد عشرة عضوًا، ثلاثة أعضاء من الشّيوعيّين واثنان من كتلة عائليّة محسوبة على حزب “المبّام” حيث نجحت القائمتان بتجنيد عضوٍ سادسٍ لتشكيل أكثريّة يكون باستطاعتها تنحية رئيس المجلس، العربي الجيّد، من منصبه وتعيين رئيس مجلس جديد وطني وشريف ومخلص، الأمر الذي لم يرُق لرجال المخابرات حيث بدأوا وبطرقهم الخاصّة الضّغط على ذلك العضو السّادس ليكون عثرة أمام تشكيل الائتلاف الوطني، وفعلاً أفشلوا التّغيير، لكنّ رفاقنا لَم يكلّوا بل عاودوا الكرّة ثانيةً ممّا أحرج رجال الشّاباك الذين حاولوا جاهدين منع رفاقنا من تشكيل الائتلاف، وحين رأوا أنّه لا بديل عن التّبديل فقاموا بتنحية عربي جيّد وتعيين عربيّ آخر أجود، أي تغيير عبّاس بدرباس، من العبّ إلى الجبّ، المهم أن لا يكون الشّيوعيّون في الائتلاف أو في أيّ مركز تمثيليّ..
يقول رفيقنا حبيب سليم حاج، أبو سليم:”أنا شيوعي وإذا بموت، بموت مرتاح، لأنّ أولادي وأحفادي على هذا الطّريق”.
ونُردّد أبياتًا من قصيدة رفيقنا الشّاعر عضو عصبة التّحرّر الوطني والمتوفّى في الأردن زكي علي نفيسة، وكان رفيقنا الشّيوعيّ المخضرم صالح عبد الرحمان المصري، أبو السّعيد، قد علّمني إيّاها هذا الأسبوع بعد لقاءٍ وديٍّ وحميميٍّ يُشعرك بفخر انتمائك ودربك، يمكنه إعطاء دروس عن تاريخ الحزب وإن جالسته تشعر أنّك جالس أمام موسوعة بشريّة:
أَنَا العَامِلُ، أَنَا البَانِي
رَمَانِي القَاصِي والدَّانِي
أَنَا البَانِي قُصُورِهُمُ
وَكُوخِي سَقْفُهُ شَجَرِي
أَنَا الخَالِقُ نَعِيمِهُمُ
وَهُم لِي مَبْعَثُ ضَرَرِي