شدّ الهمّة – د. خالد تركي
- by منصة الراي
- October 12, 2023
- 0
- 516  Views
- 0 Shares
طلبتُ من والدي أن يشُدَّ الهمَّة، بطلبي منه شُدَّ الهمَّة يا برهوم، شُدَّ الهمَّة يا رفيقي ابو خالد ومعلِّمي يا برهوم البُلشفي، ويا أغلى من روحي عليَّ، ومن عينيَّ عليَّ يا والدي، أفديك بروحي وقلبي وكبدي، هيَّا لنتقاسم الهمَّ والغمَّ، شُدَّ الهمَّة..
لكنَّه لم يفعل، والأصح لم يقوَ على شدِّها، لأنَّ العزيمة والشَّجاعة قد خانتاه..
لكنَّ برهوم لم يستطع أن يشُدَّ همَّته، فقد نالت الشِّدَّةُ من همَّته، واختطفته وأخفته عنَّا، أخذت روحَه وجسدَه، دون أن يختار هذا المصير، الذي كان يكرهه لكنَّه لم يخف منه أبدًا. وكان يردِّد ما قاله المتنبِّي:
وإِذا لَمْ يَكُن مِنَ المَوتِ بُدٌّ فَمِنَ العَـارِ أَنْ تَمُـوتَ جَبَانَـا
الآن، يا والدي، تستطيع أن تنزعَ أكليل الشَّوك من على هامتكالمرفوعة وتضعه جانبًا، بعد أن خذلتك همَّتُك، لتأخذَ قسطَك من الرَّاحة التي لم تعرفها، بعد تسعين ربيعًا أو يزيد من العمل والكفاح والشَّقاء والمشقَّة والتَّعب والإرهاق والكدِّ والضَّنك والعناء..
مع السَّلامة يابا يا حنون، يا رفيق الطَّريق، سأشتاق اليك..
سأفتقدك..
كنتَ جزءًا كبيرًا من حياتي اليوميَّة، صباحًا على فنجان قهوة مع كلمة حلوة وتساؤلات حول الوضع، وعند الظَّهيرة لا تحلو لنا لقمة الغذاء دون أن نكون بجوار بعضنا البعض، وفي العشاء بعد انتهائي من عيادتي نتسامر بعض الشَّيئ حول مشاكل اليوم ومستجدَّاته..
ففي إحدى الصَّباحيَّات:
مع فنجان قهوة على شرفة والدي ذات صباح يومٍ، يتذكَّر ابو خالد الاستاذ نعمة صبَّاغ معلِّمه للغة العربيَّة في المدرسة الاسقفيَّة للرُّوم الكاثوليك في حيفا، ويستذكر هذه القصيدة لأمير الشُّعراء أحمد شوقي عن الوطن:
عصفورتان في الحجاز حلَّتا على فنن
مرَّ على أَيكهما ريحٌ سرى من اليَمن
حيَّا وقال درَّتان في وِعاء ممتهن
الحبُّ فيها سكَّر والماء شهد ولبن
لم يرها الطَّير ولم يسمع بها إِلّا افتتن
هيا اِركباني نأتها في ساعة من الزَّمن
قالت له إِحداهما والطَّير منهنَّ الفطن
يا ريح أنت ابن السَّبيل ما عرفت ما السَّكن
هب جنَّة الخلد اليمن ..لا شيء يعدل الوطن
كنتَ كريمًا، عزيزًا، ودودًا، ذا رؤية ثاقبة، صادقًا، مخلصًا، عصاميًّا، إيثاريًّا..
كنتَ صديقًا، صدوقًا، رفيقًا، معلِّمًا، متواضِعًا، وفيًّا، عربيًّا، عروبيًا وأمميًّا وشريفًا، مثقَّفًا ملتزمًا، شجاعًا ومقدامًا وعاملاً شيوعيًّا في مصانع الاستغلال والاستبداد، كنتَ والدي..
وفي صباح آخر:
على فنجان قهوة مع والدي الحبيب ابو خالد ذات صباح:
نحن جند الله شُبَّان البلاد
نكره الذُّلَّ ونأبى الاضطهاد
فارفعوا الأعلام وامضوا للجهاد
حيث تمادى اعداؤنا في الغرور..
حين سألته من يحبُّ الآخر أكثر، مين بحب التَّاني اكتر أنا أو انت، قال لي: أنتَ، فسألتُه لماذا، قال: لأنَّك ترعاني وتشرفُ عليَّ، وتضعني تحت رعايتك وعنايتك، فقلت له كيف لا، وانت والدي، “أكرِم أباك وأمَّك”، ﴿..وبالوالدينِ إحسانًا..﴾، فهذا نقطة في بحر عطائك وتفانيك وحبِّك، منذ أن كنَّا “زغب الحواصل”..
كان ينتعش على فراشه، حالاً، حين كنتُ أُنشدُ له اناشيد الشَّبيبة الشُّيوعيَّة والوطنيَّة، وأغاني الطَّرب على أنواعها، خصوصًا الشَّامية منها واللبنانيَّة..
أذكر أنَّني حين رُفِّعت من حركة أبناء الكادحين لحركة الشَّبيبة الشُّيوعيَّة قال لي: عليك أن تكون على قدِّ الحمل، وان كنتَ غير كفؤ لذلك فالزم مكانك ولا تتقدَّم..عليك ان تكمِّل طريقي كما كنتُأنا أو يزيد..
البارحة زارني لتعزيتي صديقٌ من حارتنا، وادي النِّسناس، قال لي، لو لم يمسكني ابو خالد، لهدايتي إلى الطَّريق القويم والصَّحيح، منذ البداية لضعتُ واخذتني المتاهات..
لقد كان لوالدي الفضل على كثير من شباب الحارة، وكم هم كثر من علَّمهم الصَّنعة وابدعوا فيها ووصلوا إلى أعلى المراتب والمراكز كمتعهِّدين مستقلِّين، وبالاساس تعليم المهنة والاعتماد على الذات والمثابرة بالعمل والالتزام والاخلاص..
كثرٌ هم الذين قالوا لي في بيت العزاء “كان ابو خالد مُعلِّمي”..
لم ينتظر التَّصفيق من أحد ولا وسامًا ولا تقديرًا..
غادرتنا في ذكرى عزيزةٍ، ذكرى حرب تشرين التَّحريريَّة فنستذكر ما كتبه توفيق زيَّاد في العبور:
كان العبور مقدَّسًا، والشَّمس في عزِّ الظَّهيرة
والشَّام تعودُ للجولان، زاحفةً على جسدِ الرَّدى
باسم الحياة، وكلِّ وردِ الأرضِ، عُشبِ الأرضِ..
صخرِ الأرضِ، اسلحةٌ تُقاتلُ، والقذائف تسحقُ
الفولاذ بالفولاذِ، والنَّاس الدِّمشقيُّون كالغضبِ المُقدَّسِ..
وكان التَّحرير في تشرين..
غادرتنا في حربٍ شرسةٍ فتَّاكةٍ تأكل الأخضر واليابس، لا نعرف كيف بدأت ولا نعرف كيف ستنتهي، لكنَّني أعرف أن نهاية كلِّ حرب السَّلامُ..
كان نظيف اليد واللسان والقلب، “مخموم القلب وصدوق اللسان” لقد كان والدي تقيًّا ومخلصًا لطريقه القويم، نقيًّا لا إثمٌ عليه ولا حسدٌ ولا كراهيةٌ ولا غلٌّ ولا كرهٌ، كان يحبُّ النَّاس الذين باذلوه المحبَّة بالمحبَّة..
منمشي ومنكفي الطريق يا رفيق..