شُيُوعِيٌّ مُنْذُ اعْتِقَالِي د. خالد تركي
- by منصة الراي
- September 16, 2024
- 0
- 414  Views
- 0 Shares
الرّفيق يعقوب إبراهيم حنّا الياس، أبو سُهيل، عضو في الحزب الشّيوعي منذ اعتقاله الأوّل في سجن عتليت في عام النّكبة، حين كان عمره خمسة عشر عامًا، تعرّف على الشّيوعيّة من خلال قراءته لمنشور عصبة التّحرّر الوطني الدّاعي إلى الصّمود وعدم النّزوح والبقاء في الوطن، وتأثّر فيها أكثر حين علم أنّ من وزّع هذا المنشور كان أخاه حنّا ابراهي ..
وُلِدَ الرّفيق يعقوب إبراهيم حنّا الياس، أبو سُهيل، في العشرين من شهر كانون الثّاني من العام ألفٍ وتسعِمائة وثلاثةٍ وثلاثين، في قرية البعنة، منطقة الشّاغور الشّمالي، جبال الجليل، قضاء عكّا، حيث تطِلُّ القرية على الشّارع الرّئيسي الذي يربط مدينة عكّا بمدينة صفد، وتقع شرقيّ مدينة عكّا حيث تبعد عنها إثنين وعشرين كم.
أنهى أبو سهيل الصّفّ الثّالث ابتدائي في مدرسة القرية وانتقل بعدها، في العام ألفٍ وتسعِمائة وثلاثة وأربعين، إلى مدينة عكّا لتكملة دراسته في المدرسة الوطنيّة حيث كان مدير المدرسة إنسانًا وطنيًّا وشخصيَّة مرموقة اجتماعيًّا، يُدعى أحمد سعد الدّين، ولَم يؤكِّد على التّحصيل العلمي فقط، بل أيضًا على التّربية الوطنيّة وحبّ الوطن والتّضحية. وقد أنهى فيها الفصل الأوّل من الصَّفِّ الأوّل ثانوي، ولَم يستطع تكملة التّحصيل العلميّ، بعد أن أقفلت المدرسة أبوابها بعد سقوط المدينة، حيث يذكرُ أنّه ذهب لعطلة آخر الأسبوع يوم الخميس إلى قريته، البعنة، وحين عاد يوم الأحد إلى المدرسة لَم يجد أحدًا في المدرسة وكانت شوارع المدينة خالية من المارّة، سقطت مدينة عكّا على أسوارها..
يذكر أنّ أعضاء نوادي عكّا، نادي أسامة وعمر والأرثوذكسي وعصبة التّحرر، نادوا إلى الإضراب العام في ذِكرى قرار التّقسيم لتُدينه وتُندِّد بوعد بلفور، وحين دخل أستاذ التّاريخ الصّفّ، الأستاذ نبيل عفيفي، وجد أن إضراب الطّلاب ناجح وشدّهُ الإعجاب والحماس وسألهم عن وعد بلفور فلَم يُجبْه أحدٌ، ولّم يُعجِبهُ ردّهم، لعدم معرفتهم سبب الإضراب وما هي معركتهم المصيريّة، فشرح لهم بإسهاب عن الوعد المشؤوم وعن قرار التّقسيم كذلك شرح لهم عن مشاركته في جميع المظاهرات والإضرابات التي كانت تدعو إليها لجان الطّلاب حين كان طالبًا في الجامعة الأميركية في بيروت، وبعدها خرج مع الطّلاب وشاركهم في مظاهرتهم الجبّارة التي جابت كلّ شوارع عكّا وأزقّتها، حيث شارك فيها جميع سكّان الأحياء التي مرّت منها المسيرة.
يقول رفيقنا يعقوب: “لقد شارك والدي في ثورة السّتّة وثلاثين، فقد كان قائد فصيل، وقلّما رأيته في بيتِنا، كان ينزل مع الثّوّار ليُهاجموا ويُفجّروا بعض آليّات العدو في معسكر الجيش البريطاني في مجد الكروم ويعود معهم إلى القرية، فقد كان يسافر إلى بيروت، بسيّارة كومندكار، مع ابن عمّتي لشراء حاجيّات العائلة وخلال سفريّاته تعرّف على ضابط في جيش الإنقاذ يُدعى فؤاد طهبوب، وبدأ يُحضِر حاجيات الجيش من بيروت، بناءً على طلب الضّابط، وقد جاء الضّابط فؤاد إلى والدي قبل خروج جيشه من منطقة الشّاغور بعد أن سلّموها للعصابات الصّهيونيّة، قائلاً: لقد بيعت البلاد دبِّر حالك ولقد سمعت هذه الجملة بذاني وما زلتُ أذكرها..”
وكذلك يذكر نشيدًا لنوح إبراهيم كان يُردّدها والده:
تعيش المرأة العربيّة إسلام ومسيحيّة
باعت لي أساورها واشترت بندقيّة
لقد فرض جيش الإنقاذ منع التَّجوُّل في المنطقة لمدّة يومين واستيقظ السُّكّان في اليوم الثّالث ليجدوا أنّ البلاد قد سُلِّمت لعصابات الهجناة، وبدأت موجة القتل والتّخويف والإرهاب تعلو وتيرتها لتدبَّ الرّعب في قلوب الأهل وبدأ الهرب والنّزوح إلى ما وراء الحدود الشّماليّة والشّماليّة الشّرقيّة وقام رفاق عصبة التّحرّر بتوزيع منشور يدعو فيه السّكّان لعدم ترك البلاد والبقاء في الوطن.
وقع المنشور بيد أبي سهيل وهو في طريقه للمراعي، حين كان يرعى بقراته في السّهل الغربي، فأخذه إلى أخيه الأكبر الرّفيق حنّا إبراهيم حنّا الياس (المعروف بحنّا إبراهيم خ.ت.) ليُريه المنشور ويقرأه لكنّ أخاه لَم يستغرب من المنشور بل طلب من أبي سُهيل أن يقرأه جيِّدًا ويتمعّن في كلّ كلمة وأن يعمل، بروح دعوة المنشور، على إرجاع كلّ من يراه هاربًا شمالاً إلى بلده، وقد علم بعدها أن أخاه حنّا هو الذي وزّع المنشور في بلدتهم بعد أن أحضره من قرية أبو سنان وكان أخوه أوّل شيوعي يراه في حياته وكان المنشور أوّل مادّة يقرأها للشّيوعيّين وبدأت عمليّة الولادة الجديدة والعمر الجديد والتّطوّر الفكري لدى الرّفيق يعقوب.
بعد أن حرّر الثّوّار قرية البروة سلّموها لجيش الإنقاذ لأنّه تعهّد للثّوّار بتكملة التّحرير والحفاظ عليه، لكنّهم رأوا أنّ هذا الجيش، أعطى القرية لعصابات الهجناة بعد أن فرض عليها منع التّجوّل ليهرب وجميع أفراده من المنطقة، هذه الحادثة أثارت الشّكوك وعدم الثّقة بهذا الجيش “المُنقذ” ممّا جذب الكثير من الشّباب المثقَّف ليلتفّ حول رفاق عصبة التّحرّر الوطني (الشّيوعيّين خ.ت.) الذين حذّروا السُّكّان من هذا الجيش ومن تصرّفاته وعرفوا صواب تقديرات الرّفاق، الأمر الذي أمكن الشّيوعيّين من إقامة نواة لأصدقائهم في البعنة.
يقول الرفيق يعقوب الياس:”عندما علم قائد منطقة الشّاغور لجيش الإنقاذ بتوزيع المنشور أمر باعتقل أخي حنّا إبراهيم لكنّه أطلق سراحه بعد فترة وجيزة لعدم وجود أدلّة قاطعة تدلّ على أنّه هو الذي وزّع المنشور، أذكر كذلك أنّهم فرضوا علينا منع التَّجوّل في أواخر شهر تشرين الأوّل، حيث ادّعوا أنّها ستأتيهم فرق عسكريّة داعمة ستعزّز قدرات الجيش “المُنقذ” لطرد اليهود من البلاد الأمر الذي أثار شكوك رفاقنا في عصبة التّحرّر، وفي ساعات المساء من ذلك اليوم رأينا سيارات جيش الإنقاذ تتّجه شرقًا وشمالاً، وأهالي مجد الكروم هربوا إلى قريتنا وصوت عويل ونحيب النّساء والأطفال وصل لآخر الدّنيا..”
تشكّل بعدها وفد كبير من القرى الثّلاث المجاورة، البعنة ودير الأسد ومجد الكروم للقاء قائد الجيش الإسرائيلي في منطقة البروة، حيث كان يُدعى أورباخ، ليُعلِموه أنّ جيش الإنقاذ انسحب وأنّ السّكّان يريدون العيش بأمان فطلب القائد أورباخ من أعضاء الوفد العودة إلى قراهم ليُطمْئِنوا أهالي القُرى الثّلاث هناك بأنّ الشّرّ لن يدخلهم وسوف يُباشر مسؤول الدّاخليّة، بأسرع وقت بمباشرة عملية الإحصاء.
لقد حضروا، في اليوم التّالي، إلى قرية البعنة وبأسرع وقت، حضروا بوحدات عسكريّة إسرائيلية مدجّجة وبدأوا بإطلاق النّار في الهواء ليُرهبوا السّكَّان وليُعلنوا عن احتلال القرية فبعد أن نادوا بمكبّرات الصّوت يدعون أهل البلد ليتجمهروا في السّاحة العامّة، وبعد ذلك أمروا المختار أن يطلب من أهل القرية تسليم السّلاح، تحت شعار سَلِّم سلاحك تِسلَم روحك، فجمع المختار السّلاح وسلّمه للضّابط، حيث قام بعدها بتوزيع أهل البلد، الرّجال لوحدهم والنّساء والأطفال لوحدهم وكلّ الذين سلّموا أسلحتهم وضعوهم في مجموعة خاصّة بعيدًا عن المجموعتين. ودخلت فرقة من الجيش وبدأت تجمع ممتلكات الحضور الشّخصيّة من صيغة وأقلام وساعات وأموال ويذكر رفيقنا أبو سهيل:”لقد كان في جيبي قرشان فلسطينيّان قمتُ بإخفائهما في التراب، بعد أن حفرت حفرة صغيرة حتى لا يسرقاهما منّي”. وبعدها طلب الضّابط من أربعة شُبَّان، حيث كان الانتقاء عشوائيًّا، الذّهاب لإحضار الماء لأهل البلد لإرواء عطشهم، وبعد أن أدار الشّبان ظهرهم ومشوا بضعة خطوات وإذ بأصوات طلقات النّار من بنادق جنود الاحتلال تجرح كبد السّماء لتستقرّ في قلوب الشّباب، كان الشّبّان الأربعة من دير الأسد والبعنة بالتّناصف، يذكر رفيقنا أسماءهم، حنّا فرهود وعلي عابد وصبحي محمود ذبّاح وآخر من دار الأسد لم تُسعفه ذاكرته على حصر اسمه، وبعد تلك المجزرة أخذوا المعتقلين ليمرّوا قرب جثث الضّحايا..
وهكذا روى الجنود عطشهم لرؤية الدماء وسفكها!
// ثلاثة أيّام من الجوع القاتل والعطش الذّابح
لقد جمعوا من القريتين ( البعنة ودير الأسد) نحو مائة وعشرين رجلاً على أن
يُوزِّعوا أنفسهم إلى مجموعات بحيث تتألّف كل مجموعة من ثلاثة رجال، وبدأوا
تحت التّهديد، بالسّير على الأقدام شرقًا حتّى وصلوا قرية الرّامة، لقد كانت القرية شبه خالية من سكّانها، وعند عين الصّرار ركض المعتقلون ليشربوا ويُسكتوا عطشهم من عناء السّير تحت أشعّة الشّمس الحارقة وما أن ركعوا للشّرب من العين، حتّى بدأ الجنود بإطلاق النّار على الماء وفوق رؤوسهم كي يمنعوهم من الشّرب.
ثلاثة أيّام من الجوع القاتل والعطش الذّابح، فقد كان الجنود يوزّعون الخبز على المعتقلين، بحيث كان الرّغيف يُقسّم على عشرة معتقلين، وحين انتقل أبو سهيل، ابن الخمسة عشر ربيعًا آنذاك، مع فرقته إلى المعتقل في عتليت، لَم يحصل على حصّته من رغيف الخبز في ذلك النّهار، وكان المعتقلون معه، الرّفاق جميل وكمال غطّاس ورمزي خوري وجمال ونديم موسى، يعرفون قائد الفرقة منذ أن كانوا يعملون سويَّةً في مصنع تكرير البترول في حيفا وكانوا قد حموه مرّة من اعتداء بعض العناصر عليه، فجمعهم وأعطاهم الأكل والشّراب ويقول رفيقنا يعقوب: “بحياتي لن أنسى ذلك الرّغيف الذي أكلته في طريقي لسجن عتليت”.
كان السّجن في عتليت يمتدُّ على قطعة أرض مكشوفة للهيب أشعَّة الشّمس، حيث كانت مغطّاة بالأعشاب الشّائكة والقارصة ولَم يكن لهم مأوى سوى بطّانيّة واحدة، هي الخيمة والوسادة والفراش والغطاء. ويذكر رفيقنا يعقوب أسماء المعتقلين كانوا معه هناك وهم: جمال موسى، نديم موسى، رمزي خوري، فرج الياس، إبراهيم طنّوس، إبراهيم بولس، الياس مكراوي، يحيا ذبّاح، كمال غطّاس، جميل غطّاس، غطّاس غطّاس، حبيب زريق، ذيب زريق وفريد زريق.
كان سجن عتليت مقسّمًا بالأسلاك الحديديّة الشّائكة إلى خمسة أقسام بحيث وزّعوا المعتقلين إلى فرق، يفرش كلّ سجين بطّانيّته على الأرض وعلى أشواكها القارصة، الدُّرِّيس، التي كانت كلّما تحرّك الشّخص فوقها أكثر كلّما غرزت الأشواك في الجلد أكثر، وكانت مجموعة أبي سهيل مسجونة في قسم رقم خمسة. ويُتابع حديثه عن حادثة جرت في المعتقل لا ينساها أبدًا وهي حين قام المراقب العسكريّ من برجه برمي أحد المعتقلين من كفر عنان، فأرداه قتيلاً وبدم بارد إن كان له دم. لقد كان ذنب الكفر عناني أنّه رأى صديقًا عبر السّياج في قسم آخر من السّجن، فاقترب من السّياج الفاصل بين القسمين، ليتحدّث معه، وكان هذا آخر حديث له مع صديقه.
لقد أمر مدير السّجن بعض المعتقلين بجمع تواقيع جميع الأسرى الموافقين على قراره بأنّ من يريد أن ينتقل إلى لبنان أو سوريا يستطيع مغادرة المعتقل ويُفرج عنه ومن يريد البقاء في الوطن، يبقى في المُعتقل وحين علم الرفيق نديم موسى بالخبر أصدر تعليماته لجامعي التّواقيع على أن ينقلوها لجميع المعتقلين أنّ “الخروج من الوطن خيانة” فرجعوا إلى مدير السّجن قائلين “جميعهم باقون في الوطن”.
جمع الرّفيق رمزي خوري الرّفاق في السّجن كي يوقِّعوا على رسالة كتبها بخطّ يده بالعربيّة وقد ترجمها للغة العبريّة الرّفيق فريد زريق حيث كان يُجيد اللغة جيِّدًا، يُطالبون فيها إدارة السّجن بأن تُعامل المعتقلين كأسرى حرب وإلا فلماذا تعتقلهم، وإن لَم تستطع ذلك، فلتُحرّر المعتقلين لأنّه كان من بينهم سجناء لَم يبلغوا سنّ الرّشد بعد، إذ كانت أعمار بعضهم دون الخامسة عشرة. وعندما خرجوا إلى معسكرات الجيش البعيدة عن المعتقل، للعمل في تنظيفها أخذوا معهم الرّسالة ووزّعوها على المدن التي تمرّ فيها الحافلة العسكريّة إلى المعسكرات بعد رميها من شبابيك السيّارة وهكذا وصل خبر الإضراب إلى الصّحافة وأعضاء الكنيست الشّيوعيّين حيث قاموا بزيارة المعتقلين ونشرت صحيفة الاتحاد عن الخبر، وعملوا على إخلاء سراح المعتقلين..
بعد التّحرير عمل ألرّفيق أبو سُهيل في المحاجر قرب قريته وفي صبّ الحديد لاحقًا في منطقة السّعادة (التشيكبوست)..
يذكر رفيقنا أبو سهيل: “حضر إلى مكان العمل زُلُم آبا حوشي، فرقة مكوّنة من مائة وخمسين عاملاً توزّعوا على أماكن العمل التي تُشَغِّل عربًا، طالبين من المُتعهِّد أن يطرد العمّال العرب ويُبدّلهم باليهود ليكون العمل عبريًّا، لأنّ نقابة العمّال (الهستدروت) قامت لخدمة العمّال العبريّين في أرض إسرائيل، وليس العرب، لكنّهم فشلوا في ذلك حيث وصل المسؤول عن الشّغل إلى قناعة بأنّه لن يجد عمّالاً أفضل منّا، لكنّهم طردونا من العمل بعد عدوان حزيران”.
عمل حزبنا الشّيوعي على تغيير اسم نقابة العمّال العبريّين في أرض إسرائيل، الهستدروت، بنضال جماهيريّ مرير ومثابر حيث نجح في تغيير الاسم إلى نقابة العمّال العامّة لِتشمل جميع العمّال مواطني الدّولة، عام ألفٍ وتسعِمائة وستّة وخمسين.
كان على رفيقنا، كما كان على غيره من العمّال العرب، من أجل العمل أن يُصدر تصريحًا بذلك، حيث كان يُسافر يوميًّا من البعنة إلى مكان العمل وقلّما كان يجد مكانًا شاغرًا في الحافلة، فقد كان سفره في للعمل ذهابًا وإيابًا واقفًا.
شقاء وإرهاق وتعب وتحدّي وتصميم..
لقد اقترن اسم قرية البعنة باللون الأحمر، حيث مُنحت اسم البعنة الحمراء كما اقترن اسم مدينة حيفا بنفس اللون، بفرق واحد وأساسي، أنّ غالبيّة سكّانها من العمّال لوجود مصانع عديدة في منطقتها، وكان حزب العمّال الصّهيوني مسيطِرًا على المدينة، أمّا البعنة فحمراء بوجود الشّيوعيّين فيها، هؤلاء الذين أنقذوا أهل بلدتهم والقرى المجاورة من التّرحيل وحمَوا أهلها من شرّ الهويّات الحمراء التي منحتها سلطات الاحتلال للسُّكّان وكانت هذه الهويّات عبارة عن تصاريح عسكريّة لإقامة مؤقّتة قابلة للتّجديد، ولأنّ لون التّصاريح كان أحمر سُمِّيت مجازًا بالهويّات الحمراء مقابل الزّرقاء المدنيّة المعروفة والموجودة بحوزة كلِّ واحدٍ منّا. وكما هو معروف أنّ الهويّات الحمراء أُعطيت لغالبيّة سكّان منطقة الشّاغور ليكون وجودها في وطنها الذي لا وطن لها سواه تحت رحمة الحاكم العسكري وحسب إخلاص هذا المواطن لسلطات الاحتلال، بحيث لا يحقّ لأصحاب هذه الهويّات امتلاك أيّ شيء وكذلك لا يحقّ لهم الاقتراع..
لقد اقترن اسم محامي الأرض حنّا نقّارة، أبي طوني، بقرية البعنة، فقد كتب الرّفيق حنّا إبراهيم في كلمته التّأبينيّة لأبي طوني، تحت عنوان حامل وسام معركة الصّمود، في كتاب حنّا نقّارة محامي الأرض والشّعب ص 270: ” لا أعرف اسم بلدة ارتبط تاريخها الحديث وربّما مستقبلها باسم حنّا نقّارة كقريتنا البعنة”، لقد كان يقول محامي الأرض “البعنة تعزُّ عليّ كثيرًا وكذلك أهلها بالطّبع”.
يُتابع الرّفيق حنّا إبراهيم:”..كان من نصيب أهل البعنة الوقوف في الطّليعة وتحدّي الحكم العسكري. وقد أعددنا أنفسنا جيِّدًا”. وبالفعل استعدّ رفاق الحزب هناك لمعركة الهويّات حيث دعا الرّفاقُ جماهيرَ البلدة لاجتماع شعبيّ قاموا فيها بعمليّة إحصاء محليّة ولتعبئة استمارات توكيل كي يتسنّى لمحامي الأرض أبو طوني، الذي شعر بخطر هذه الهويّات وبادر إلى اللجوء إلى القانون، فرفع دعوى إلى محكمة العدل العُليا باسمهم، لكي يحصلوا على الهويّات الزرقاء لجميع المواطنين متوعِّدين بذلك إذا مُنح أحدٌ من قريتهم هويَّة حمراء فسوف يرفض جميع أهل البلدة الهويَّة الزّرقاء، وكان لأهل البلد ما أرادوا وكان أبو طوني بطل الموقف والنّصر.
وقد تغنّت فتاة بالنّصر، شاكرة محامي الأرض حنّا نقّارة:
حنّا نقّارة يا محامينا الحمرا والزّرقا عَ صرامينا
يا بو خضر تعال ودّينا من كلّ الحكومة ماني مهموما
وطبعًا شخصيّة أبي خضر المخابراتيّة معروفة لجميع أهالي الشّمال، ولَم تمرّ حلقة
من حلقات ذكريات الرّفاق، الذين جلستُ معهم، إلا وكان اسمه واردًا ومرتبطًا بعمليّات التّرحيل والتّشريد والاعتقال والنّفي..
وتغنّت أخرى متحديةً رئيس الحكومة بن غوريون:
صبايا البلد ردّوا عليّ، الله ينصركو يا شيوعيّة
حنّا نقّارة جاب الهويّة غصبن عن رقبة بن غوريونا
ويكتب الرّفيق حنّا ابراهيم في الكلمة ذاتها ما قاله له أبو طوني، بعد أن رفض أن يتقاضى أجر أتعابه ص 274:”لو تقاضيْتُ مقابل أتعابي ..لاعتبروا المسألة كلّها قضائيّة. ولخفِيَ عليهم الجانب السّياسي الكفاحي فيها. يجب أن يعرفوا أنّني فعلتُ ما فعلتُ ليس لأنّني محامٍ بل لأنّني محامٍ شيوعيّ”.
يقول رفيقنا أبو سهيل:”تعرّفت في عكّا على زوجتي سُميَّة جميل جريس وتزوّجنا وعندما تقدّمتُ بطلب تصريح إقامة في عكّا مع عائلتي الجديدة، دعوني إلى مقابلة مع الضّابط زيغدون بعد أن صادروا تصريحي بأمر من الحاكم العسكريّ، فعاد إليّ بعد أسبوع طالبًا منّي التّصريح، قلت له لقد صادرته منّي قبل سبعة أيّام كيف تطلبه منّي الآن، فاعتقلوني وأعادوني لوحدي بسيارة الشّرطة إلى البعنة، لكنّي عدتُ إلى عكّا مساء اليوم ذاته، حيث رأيت ذلك الشّرطيّ الذي نقلني إلى قريتي داخلاً دار السّينما وبالتّأكيد رآني، لكنّه لَم يكترث لوجودي ولَم يسألني عن سبب عودتي ولَم يعتقلني..
ونجح محامي الأرض حنّا نقّارة، أبو طوني، بإصدار قرار من محكمة العدل العُليا
يصرّح لي بالسّكن في عكّا، لكنّ ضغينة وحقد الحاكم العسكري ظهرت بعد أيّام معدودة من القرار حين أحضروا لرفيقنا أبي سهيل الإقامة الجبريّة وقرار إثبات وجود في مركز الشّرطة مرّتين في النّهار..
وعندما سألتُ أبا سهيل عن عمره الحزبي أجابني:”أنا عضو في الحزب الشّيوعي منذ اعتقالي الأوّل في عام النّكبة” أي أنّ الاعتقال والتخويف والتّرهيب والطّرد
من العمل لَم تغيّر او تُبدِّل من إيمانه بالشّيوعيّة قطّ.
الرّفيق يعقوب إبراهيم حنّا الياس، أبو سُهيل، عضو في الحزب الشّيوعي منذ
اعتقاله الأوّل في سجن عتليت في عام النّكبة، حين كان عمره خمسة عشر عامًا، تعرّف على الشّيوعيّة من خلال قراءته لمنشور عصبة التّحرّر الوطني الدّاعي إلى الصّمود وعدم النّزوح والبقاء في الوطن، وتأثّر فيها أكثر حين علم أنّ من وزّع هذا المنشور كان أخاه حنّا، وعرف أنّ هؤلاء، الرّفاق، هم الذين صنعوا بقاء شعبنا ومجده، فهُم صناديد الوطن وفرسانه وهم الأمناء على هذه الدّيار وحماتها وهم الذين بالمجد والعزّ والفخار والكرامة والشّهامة اعتمدوا ونتمنّى لرفيقنا أبي سُهيل وجميع أفراد عائلته الكريمة، زوجته سُمَيّة والأبناء رجاء وسهيل ووفاء وزهير كلّ الصّحّة والعافية والعمر الطويل والعقل السّليم لمزيدٍ من العطاء والصّمود لأنّنا بوركنا بك أيّها الرّفيق الأصيل كما أنّك بوركت بهذا الحزب الشّيوعي ولا بديل عن هذه الطّريق والسّبيل، مهما عصفت رياح الغرب للتّغيير، ومهما كبت أجيادنا..
فقد قال الشّاعر عمر أبو ريشة في قصيدته عرس المجد احتفالاً بجلاء الفرنسيّين عن الوطن سوريا:
نَحْنُ مِنْ ضَعْفٍ بَنَيْنَا قُوَّةً لَمْ تَلِنْ لِلْمَارِدِ المُلْتَهِبِ
كَمْ لَنَا مِنْ مَيْسَلُونٍ نَفََضَتْ عَنْ جَنَاحَيْهَا غُبَارَ التَّعَبِ
كَمْ نَبَتْ أَسْيَافُنَا فِي مَلْعَبٍ وَكَبَتْ أَجْيَادُنَا فِي مَلْعَبِ
مِنْ نِضَالٍ عَاثِرٍ مُصْطَخِبٍ لِنِضَالٍ عَاثِرٍ مُصْطَخِبِ
شَرَفُ الوَثْبَةِ أَنْ تُرْضِي العُلَى غَلَبَ الوَاثِبُ أَمْ لَمْ يُغْلَبِ
ونهتف مع أبي سهيل، هذا الشّيوعيّ العريق، عاليًا قول الشّاعر المناضل داود تركي أبي عايدة، في قصيدته رفرف لواءك وانتصِب أيّارُ:
فَشَلُ الطَّرِيقَةِ لَيْسَ يُلْغِي مَبْدَأ
يَسْمُو بِهِ وَيُفَاخِرُ الأَخْيَارُ
لَكِنَّهُ دَرْسٌ تَوَجَّبَ عِلْمُهُ
لِمُنَاضِلٍ قَدْ هَمَّهُ اسْتِمْرَارُ