نافِذَتي تُطِلُّ على رِوايَة “المَولُودَة” – د. خالد تركي حيفا
- by منصة الراي
- April 6, 2025
- 0
- 321  Views
- 0 Shares

حصلتُ على رواية “المَولُودَة” الطَّبعة الخامسة، الصَّادرة عن دار النَّشر المصريَّة، “الكرمة للنَّشر”، عام أَلفين وثمانية عشر، للكاتبة المصريَّة الشُّيوعيَّة نادية كامل، حيث يقع الكتاب في خمسمائة وخمسين صفحة، وقد حازت هذه الرِّواية على جائزة ساويرس الثَّقافيَّة، التي تدعم الحركة الأدبيَّة في مصر، وقد نُشر هذا الكتاب بدعمٍ كريمٍ من مؤسَّسة روزا لوكسنبورغ، مكتب شمال أَفريقيا.
كُتبَت الرِّواية باللغة العربيَّة المصريَّة العامِّيَّة لتخرج عن المألوف، مع بعض الجمل الطِّليانيَّة مترجمة للعربيَّة وحين تقرأُها تحاول أَن تقرأَها بلكنتها ولهجتها، إِذ لم يكن صعبًا عليِّ قراءتها، بل قرأتُها باستمتاعٍ ولذَّةٍ، وهناك بعض الكتَّاب الذين كتبوا قصصهم بالفصحى، وكتبوا بعض الحوارات خلال السَّرد بالعاميَّة المحليَّة كالطَّاهر وطَّار، أَحلام مستغانمي، واسيني الأَعرج والطَّيِّب صالحوغيرهم..
تحكي لنا الكاتبة فيها ما روَته لها أُمُّها، الشُّيوعيَّة، نائلة كامل، ابنة السَّبعين، عن أَحداث حدثت في مصر، خلال قرابة مائة عامٍ، وتروي لنا عن بطولات الشُّيوعيِّين المصريِّين، من الحرب العالميَّة الثَّانية ومصر تحت الإِحتلال البريطانيِّ وفترة حكم الملك فاروق، ثورة يوليو للضُّبَّاط الأَحرار، وجمال عبد النَّاصر وتأميم القناة وبناء السَّدِّ العالي والإصلاح الزِّراعيِّ ومحو الأميَّة وحقوق المرأَة والوحدة العربيَّة بين الإِقليمين الشَّماليِّ والجنوبيِّ، سوريَّة ومصر، وخلاف عبد الكريم قاسم وعبد النَّاصر، وخلاف عبد النَّاصر مع الشُّيوعيِّين العرب، وتروي لنا محبَّتهم لشخصه رغم زجِّهم في سجنه وتعذيبهم، وتأسيس دول عدم الإنحياز إلى وفاته وفترة الرِّدَّة بعد صعود أَنور السَّادات سدَّة الحكم.
“كنَّا بنقعد مدَّة طويلة هي تتكلَّم وأَنا أَسمعها..عن مجيئ الفاشيَّة والمقاومة في قريتها..”(ص 36).
رواية قريبة منِّي وشعرتُ أّنَّها منِّي وهدفها كهدفي، لقد جاء في كتابي “حيفا في ذاكرة برهوم” ما يلي:
“قبل أن تخونَه الذَّاكرةُ، الخؤونة، كعادتها مع أبناء وبنات آدم، من المتقدِّمين في السِّنِّ، ويذهب كلُّ ما في مخزونه العلويِّ من ذكريات وأَحداث عاشها وعايشها أَدراج الرِّياح وأَندمُ، ساعة لا ينفعني النَّدم، على ما كان باستطاعتي عمله معه ولم انفِّذه، لأنَّه حينها لنتُفيدَني حسرةٌ ولا لوعةٌ، ولن أُسامح نفسي على ذلك، وسأَقعُ ما بين كرٍّ وفرٍّ بين الأُمنية وتحقيقها، وما بين الرَّغبة والخيبة والهيبة والإِثبات، مجدَّدًا، بديهيَّة وجودنا على هذه الأرض التي ليس لنا سواها، ولا نريد سواها ولا نُفكِّر في أيِّ وطنٍ بديلٍ سواه، لذلك فنحن لن نرحل، حتَّى لو كُتِب لنا ذلك، عن “سيِّدة الأرض” لأنَّها “أمُّ البدايات، أمُّ النِّهايات”، (ص 15).
عندما كان جمال عبد النَّاصر في زيارة تيتو زعيم يوغوسلافيا،وصلت لجوزيف بروز تيتو رسالة من مجهول “واحد من الشُّيوعيَّين في مصر مات في المعتقل بسبب التَّعذيب”(ص 299) وكان هذا الشَّهيد شهدة عطيَّة الشَّافعي، وحين أَخبر جمال عبد الناصر بالخبر، قال إِنَّه لا يعلم بذلك، وحين حاول سعد كامل بطل الرِّواية الحؤول دون إِعدامه توجَّه إِلى الصَّحفيِّ محمَّد حسنين هيكل في الإسكندريَّة ليتدخَّل عند الرَّئيس جمال عبد النَّاصر لإنقاذ الشَّافعي، قال له لقد جئتَ متأَخِّرًا..
“عبدالناصر بعت يعزل المأمور اللي حصلت الحادثة دي تحت إِدارته، وشالوه من السِّجن. ما عملش مراجعة لجهاز التعذيب والمباحث” (ص 299).
وحين زار خروتشوف الزَّعيم السُّوفييتي مصرَ قال لجمال عبد النَّاصر “بتوزَّع أَراضي على الفلاحين وتُأَمِّم شركات للقطاع العام وتُأَمِّم القنال وعايز تبني السَّد وتعمل علاقات مع البلاد الشُّيوعيَّة، معقولة إن الشُّيوعيِّين اللي عندك، النَّاس اللي نادت أَصلاً بكلِّ الإِصلاحات دي حاططهم في المعتقل؟..وأَفرج عنهم بالفعل”(ص 302)، “عملنا احتفال كبير بمناسبة الإِفراج عن الشُّيوعيِّين”(ص 304)..
لكنَّ اسم ولادة نائلة كامل لم يكن كذلك بل كان اسمها، ماري إِيليَّا روزنتال، حيث وُلدت في بيت فقيرٍ، على قدِّ الحال، لعائلة يهوديَّة في شارع العشماوي، بالقاهرة.
وُلدت نائلة كامل وعاشت في القاهرة، وهي ابنة عائلةٍ مكوَّنةٍ من أَبٍ يهوديٍّ مصريٍّ يعمل تقنيًّا في شركة الكهرباء الإنجليزيَّة كوك “كهربجي” مثقَّف من الدَّرجة الأُولى وقارئ نهم يداوم على تثقيف وتعليم وتدريس أَولاده، ويحبُّ علم الفلَك، وهي ابنة لأُمٍّ إِيطاليَّةٍ مسيحيَّةٍ، “إِيطاليَّة خواجيَّة” (ص 21).
لكنَّ انتماء ماري إِيليَّا روزنتال أَي نائلة كامل لمصرَ كان فوق كلِّ شيئ،
تزوَّجت من المناضل والمثقَّف سعد كامل زواجًا “كَتْب الكتاب الإِسلامي حصل قبل الجواز المسيحي..” (169).
“أَنا مصريَّة وحاقعد في مصر، مش حامشي..إِتولَدت بمصر وأَبويا إِتوَلد في مصر، أَهلي عايشين في مصر” (ص 152)، “أَنا مصريَّة عاوزين يطردوني من البلد، دا غير قانوني، أَنا مصريَّة، دا غلط دا ظلم”، “وللأَسف كتير منهم انتهى بيهم الأَمر في إسرائيل، بالذَّات اللي ما عندهمِّش إِمكانيَّة يستقرُّوا في أُوروبَّا”(ص 185)، “أَبويا وأُمِّي هنا، معنديش أَيَّ جنسيَّة غير المصريَّة”(ص 221)، “باين عليكِ أَجنبيَّة. أَبدًا أَنا مصريَّة”(ص 258)، “ومش حاسَّة إِنَّ لي أَيَّ علاقة أَو إِنتماء غير لمصر..للقضيَّة المصريَّة..جمال عبد النَّاصر والسَّدِّ العالي وتأميم القناة اللي حصل وأَنا في السِّجن”(ص 266)، وصَمَدَت في مصر، وطنِها، رغم السِّجن والإِعتقال والإقامة الجبريَّة التي فُرضت عليهم،”الرِّقابة اليوميَّة تيجي بعد السَّاعة السَّابعة، ملهمِّش ميعاد محدَّد..”(ص 228)، صَمَدَت بعد أَن كانت هناك محاولات لترحيلِهم من مصرَ..
كما كانت الإِقامات الجبريَّة على رفاقنا، وهي حبس منزليٌّ يفرض عقوبة مقيِّدة لحرِّيَّة المواطن، حيث كان الرَّفيق يمنع من الخروج في ساعات الليل، وكان سكَّان القرية أَو المدينة يجتمعون، مساندين له، في بيت الرَّفيق المحبوس، وذلك لدعمه وتشجيعه وتأييده، كذلك كانت هناك عقوبات تمنعه من مغادرة قريته أَو مدينته في فترة الحكم العسكريِّ، وكانت هناك إِقامات جبريَّة تُفرض على الرَّفيق بحيث عليه إِثبات وجوده ثلاث مرَّات يوميًّا، مثلاً كان على رفيقنا الشَّاعر محمود درويش أَن يُسافر إِلى عكَّا ثلاث مرَّات على درَّاجته ليُبت وجوده في مركز الشُّرطة، مسافرًا بين الجديدة وعكَّا، لقد فُرضت كذلك الإقامة الجبريَّة على جماهيرنا العربيَّة فترة الحكم العسكريِّ التي امتدَّت منذ النَّكبة لغاية العام أَلف وتسعمائة وخمسة وستِّين، وكان إِلغاء الحكم العسكريِّ بفضل الشُّيوعيِّين في بلدي..
“كان فيه هتافات ومظاهرات ضدَّ الأجانب وكان في ناس بترمي طوب على شبابيك بيوت الخواجات..”(ص 143).
رغم أَنَّ ماري نائلة كانت تعيش في بيئةٍ أَجنبيَّة داخل القاهرة ما بين عائلات يونانيَّة وأَرمنيَّة ويوغوسلافيَّة وإِيطاليَّة حيث كانت العلاقة بين هذه العائلات طيِّبة للغاية، وكان تجَّار البلد يتكلَّمون مع أَهل هذه المنطقة كلٌّ بلغته، “وعلى أَيِّ حال العلاقات الإجتماعيَّة اليوميَّة مع الطَّلاينة اللي ساكنين حوالينا مش مع جيراننا المصريِّين”(ص 28).
وحين كان هناك خطرُ اعتقال والدها إِيليَّا من قبل الفاشيِّين الأَلمان، ليهوديَّته، أَجمع الجيران، بوقفة واحدة، على واجب الدِّفاع عنه، “إحنا حندافع عن سنيور إِيليَّا إحنا حنقول إِن الرَّاجل دا كويِّس جدًّا وطيِّب جدًّا..”(ص 52).
كانت والدتها، لياندرا، تحبُّ تاريخ بلدها حيث كان والدها جنديًّا في الجيش الطِّليانيِّ، في جيش غاريبالدي، “القمصان الحمر”(ص 35)، بينما كتائب موسوليني كانت تُسمَّى “القمصان السُّودا” (ص 41) حيث إنضمَّ لحزبه الإشتراكيِّ، وكان يُعتبر بطلاً قوميًّا تحدَّى الإحتلال وحُكم موسوليني، وكانت له ميولٌأُمميَّةٌ.
لقد دأبت الوالدة ماري نائلة على سرد حكاياتها ضدَّ الفاشيَّة وضدَّ موسوليني الفاشيِّ وأَشادت بحركة المقاومة وبالمقاومين الأَبطال، وسردت تعذيب الفاشيِّين لجدِّها المعاق وتعذيب باقي السُّكَّان في القرية في إِيطاليا، وقد امتعضت والدتها، كيف أَنَّ جهاز التَّعليم يذكر هذه الفترة باقتضابٍ شديدٍ ومُتعمَّدٍ، “في شكل فصلٍ قصيرٍ أَو فقرةٍ..”(ص 36)، لأنَّ هذا التَّثقيف على مقاومة الإحتلال هو كفيل بشحذ الهمم في مصر أَيضًا لكنس الإِحتلالوطرده منها، لكنَّها في الرِّواية تُسهب في سرد الأَحداث والحرب بين الإشتراكيِّين وجيش موسوليني الفاشيِّ ونصرته للدِّكتاتورفرانكو وللفاشيِّين في الحرب الأهليَّة في اسبانيا..
كذلك في بلادنا يكتبون في مناهج التَّعليم عن حركات المقاومة وحركات التَّحرُّر وعن تاريخ العرب وعن النَّصر على النَّازيَّة وتحرير الإنسانيَّة من أّنياب هتلر وموسوليني باقتضاب شديدٍ، ويركِّزون على كتابة التَّاريخ كما يحلو لهم، ففي تاريخ العرب يذكرون يهود بلاد الحجاز وكأّنَّما لولاهم لما انتشر الإسلام، ويُنكرون حقيقة تحرير الجيش السُّوفييتيِّ لأُوروبا، الذي دفع ثمن التَّحرير أَكثر من اربعةٍ وعشرين مليون شهيدٍ..
لقد اهتمَّت بتفسير ظاهرة دعم “الطَّلاينة”، كما تسمِّيهم، في الخارج لموسوليني، “لأَنه أَدَّاهم حوافز زي الدِّراسة والمعسكرات المجَّانيَّة للأولاد..وما عانوش من بطش الفاشيَّة والحرب..”(ص 48)، أَرادت تدوين تاريخ والدتها النِّضاليِّ، في سيرةٍ ذاتيَّةٍ، على مدار مائة عامٍ أَو يزيد، حتَّى لا يجرفها نهر النِّسيان الهادر، وحتى لا تأكلها عمليَّة التَّعرية والتَّجريف، حتَّى يكون مرجعًا علميًّا ومعيشيًّا لتاريخ أَبطال وبطلات عاشوا وناضلوا وضحُّوا بأَغلى ما يملكون من أَجل حياةٍ حرَّةٍ كريمةٍ، كتبتها خوفًا من الإندثار والعبث بها، وكأَنَّها لم تكن، لتكون أَقوى من النِّسيان..
فتنقل قصَّتها لإبنتها وتقوم ابنتها بسرد قصَّة جدَّتِها لإبنها..
ابتدأت حياتها السِّياسيَّة في “النَّادي الإيطاليِّ بالقاهرة” حيث كان أَعضاؤه من المناهضين للفاشيَّة، وكان يقيم الحفلات واللقاءات والدَّورات الفنِّيَّة والتَّثقيفيَّة والسِّياسيَّة، وماهيَّة الفاشيَّة والدِّيمقراطيَّة “..وإيه هي الفاشيَّة ..محاكم التَّفتيش وحركة البروتستانت..”(ص 61)، وكذلك تعلَّمَت كيفيَّة قراءة الصَّحيفة وجودة المقالات وماذا عليها أَن تقرأ ولأيِّ المقالات عليها أَن تنتبه، تمامًا كما دأَب حزبنا واهتمَّ بتثقيف رفاق ورفيقات الكادر وهم في منظَّمة أَبناء الكادحين إِلى الشَّبيبة إِلى عضويَّته في الحزب، إِهتمَّ بالرِّياضة فأَسَّس فريقَ المستقبل لكرة القدم، وفرقةً للإنشاد الطَّليعة، “فالفنُّ هو خندق الشُّعوب الأَخير، خندق الدِّفاع عن مُثُل الحرِّيَّة والسَّلام والدِّيموقراطيَّة والتَّعدُّديَّة، فلندافع عن هذا الخندق، وما دمنا نصون الثَّقافة ونحمي الإِبداع فهذا دليلٌ حيٌّ على أَنَّنا شعبٌ حيٌّ”(الشَّاعر سميح القاسم، من كتايس يوميَّات برهوم البلشفيِّ ص 108) ..
لقد كان للشُّيوعيِّين في مصر عدَّة تنظيمات اتَّحدت تحت اسم “حدتو” الحركة الدِّيمقراطيَّة للتَّحرُّر الوطنيِّ، دون ذكر شيوعيَّة في اسم التَّنظيم، وهي مكوَّنة من “ح.م.” حركة مصريَّة، “إسكرا” أَو شرارة، لكنَّها لم تدُم بل انبثقت منها “منظَّمة شيوعيَّة مصريَّة م.ش.م.” على ما يبدو جرَّاء خلافات شخصيَّة أَو فكريَّة.
وفي عام النَّكبة تمَّ اعتقال الرِّفاق الشُّيوعيين، من اليهود المصريِّين والخواجات (أجانب من سكَّان مصر) فترة الملك فاروق، وقد إِتُّهموا بالصَّهيونيَّة، حيث ازداد كره اليهود في مصر وذلك بعد نكبة فلسطين.
لقد وضع الشُّيوعيُّون الأجانب في مصر نصب أَعينهم تعلم اللغة العربيَّة “ما دام احنا منكافح مع الشُّيوعيِّين المصريِّين لازم العربي بتاعتنا يكون كويِّس”(ص 81)، عملية مشابهة لعمليَّة تعريب حزبنا الشُّيوعيِّ التي حصلت في بلادنا، فحتى تُقنع عامَّة الشَّعب عليك أَن تكلِّمهم بلغتهم، يفهمون عليك وتفهمُ عليهم، كانت عمليَّة التَّعريب تهدف إلى توسيع صفوف الحزب بين عامَّة النَّاس ليُصبح أَكثر جماهيريَّةً ..
إِعتُقلت ماري/ نائلة ورفاقها خلال اجتماع خليَّة في حيِّ السَّيِّدة زينب، وفي السِّجن التقت بسجينات جنائيَّات وسياسيَّات وسجينات كنَّ قد تجاوزنَّ “الآداب والأَخلاق” (ص 101)، وهناك التقت بسجينة فلسطينيَّة مع ابنتها ابنة العشر سنوات، كانت قد تجاوزت حدود فلسطين هربًا، لحظة سقوط البلاد وحينها فهمت قضيَّة فلسطين التي لم تُذكر أَمامها قبل ذلك، “في البيت ما جاتش السِّيرة”(ص 91)، فهذه اللاجئة أَسهبت في الشَّرح، وكان ذنبها أَنَّها هربت من الإحتلال للإحتماء بذوي القُربى، فنالت ظُلمَهم، وتلتقي هناك أَيضًا برفيقاتها اللواتي سبقنها في الدُّخول إلى المعتقل، من معتقلات ومسجونات، من زوجات للرِّفاق الشُّيوعيِّين ومن عزباوات، وتذكر هناك أسماء مصريَّة وأَجنبيَّة وأَسماء يهود مصريِّين منظَّمين في الحزب، وتلتقي في السِّجن بسجينات ليست لهنَّ أَيَّ علاقة بالشُّيوعيَّة مثل تحيَّة كاريوكا وزوزو ماضي منيب وعليَّة توفيق زوجة عضو مجلس الثَّورة، حيث سُجنت بسبب صراعاتٍ داخل الجيش أَو الشُّرطة..
وهذا الحدث يُذكِّرني برفاقي الشُّيوعيِّين الذين اعتُقلوا في سجن أَبو عجيلة المصريِّ الصَّحراويِّ حيث كان هناك الرِّفاق علي عاشور ومحمَّد خاص وعودة الأَشهب وحسن أَبو عيشة وسليم القاسم وصبحي بلال وأَسعد مكِّي وغيرهم وبعد سقوط البلاد سُجنوا في المعتقلات الإسرائيليَّة، وقام حزبنا بعد ذلك بتحريرهم..
لكنَّ وجود تحيَّة كاريوكا معهُنَّ جعل حياتهنَّ في السِّجن سهلةًأَكثر حيث اعتنت بهنَّ كثيرًا وكان السَّجَّانون يبغون إرضاءها لذلك حصلت على كلِّ ماتريد وأَعطت السَّجينات اللواتي معها كلَّ احتيجاتهنَّ..
وقد دخلت تحيَّة كاريوكا لاحقًا “جمعيَّة أَنصار السَّلام العالميِّ” حيث “كانت فاتحة بيتها ملتقى فكري”(ص 134)، “تحيَّة كاريوكا تدخل السِّجن فالسِّجن كلو يقف على رِجل..”(ص 185)، حيث كانت سعيدة باستقبال الزُّوَّار والمفكِّرين وكان حديثهم “مش بيقولوا تفاهات، الحديث بينهم على مستوى عالي”(ص 135)، وقد أَبدعت بتمثيل مصر في مهرجان السَّلام في رومانيا “دا إِنَّها عملت نجاح كبير بين الوفود ورقصت في شوارع بوخارست..”(ص 161).
وتخرج من السِّجن الأَوَّل مشحونةً بالطَّاقات والإلتزام بالعقيدة الإشتراكيَّة حيث مرَّت هناك بدورات تثقيفيَّة من سجينات أُخريات، وتقول: “أَنا باقيِّم مرحلة السِّجن أَلأَوَّل إِنَّه انفراجة كبيرة مش خبرات عمليَّة لكن ذهنيَّة وثقافيَّة ونفسيَّة. إِتِّصالي بالنَّاس دول فتح لي طاقة” (ص 120). لكنَّ قضيَّة السِّجن أَرعبت أَهلها، ولم تلقَ الدَّعم الكافي في سجنها أَو في طريقها النِّضاليِّ، لكنَّها في السِّجن ازدادت ثباتًا وقوَّةً وعزيمةً في طريقها وفي عملها السِّريِّ الذي بدأَت تُتقنه بشجاعةٍ ومهنيَّةٍ دون خوف من الإعتقال أَو السِّجنِ.
بعد أَن أُفرج عنها تعرَّفَت على زوجها سعد كامل النَّشيط، في لجنة “أَنصار السَّلام العالميِّ”، “مش شيوعي”(ص 137)، حيث كانت تعمل في معرضٍ في السَّفارة المجريَّة، وبدأت لقاءاتهما في المنتديات الأدبيَّة والمسارح ودور السينما والحفلات واللقاءت، معجبةً جدًّا بشخصيَّته حيث كانت حياتهما حياةً ثقافيَّةً سياسيَّةًبامتياز وكانت خاتمة هذه العلاقة الزَّواج.
لقد كانت حياة السِّجن حياة مليئة بالإثراء الفكريِّ والنَّظريِّ والثَّقافيِّ، بالدِّراسة والمناقشات “الحمد لله في السِّجن عشتُ نسبة ثراءٍ فكريٍّ وثقافيٍّ..”(139)، حيث كانت حياتها خارجَه لتوزيع المناشير فقط بدون مناقشات، وتحكي لنا كم هي الحياة في مصر راقية ومزدهرة بالأُدباء والشُّعراء والمثقَّفين واليساريِّين والشُّيوعيِّين والتَّقدُّميِّين، حيث تعرَّفَت على هذه الشَّريحة من خلال نشاطات زوجها سعد كامل، لقد تزوَّجا على شريعة محمَّد، وغيَّرت اسمها من ماري إيليَّا روزنتال إلى نائلة كامل، وبعدها أَيضًا كان زواجٌ على سُنَّة وشريعة الفاتيكان “إِحنا اتجوَّزنا مرتين،كتب الكتاب الإسلامي حصل قبل الزَّواج المسيحي، بمساعدة حسن فؤاد”(ص 169)، ولكن لم يبق الكثير من عائلة ابيها
اليهود إِلا والدها، الذي رفض مغادرة مصرَ وطنه.
لقد ثابرت الكاتبة من خلال المذكَّرات أَن تسرد لنا تاريخ ونشأة الحركة الوطنيَّة في مصر من نضالات واعتقالات وإِرهاب وتنكيل وثورة على الملك فاروق وعلى الإنجليز وتوجيه الثَّورة نحو مسار نهج عدم الإِنحياز وضدَّ نهج الاستعمار والامبرياليَّة ويجوز أَنَّها دأَبت على ذكر الكثير من المعلومات الدَّقيقة أَو الهامشيَّة، حيث كنتُ أَضيع أَحيانًا بين السُّطور، لكنِّي سرعان ما أَجدُ نفسي، يجوز أَنَّها كانت مهمَّةً للقارئ المصريِّ، عن شخصيَّات وأَسماء لا تعرفها لدرجة أَنَّ الأَسماء والمعلومات، يُمكنها أَن تكون مرجعيَّةً للقارئ المصريِّ ولتاريخ الحركة التَّقدُّميَّة والوطنيَّة في مصر..
“يجب أَن تكون معارضة قويَّة في البلد ضدَّ الميول القمعيَّة للنِّظام” (ص 181)، “مصر كانت تحت الإحتلال الإنجليزي وكان لسَّه الملك موجود” (ص 183)، وكانت إدارة السِّجن تمنع إِختلاط السَّجينات الشُّيوعيَّات مع غيرهن خوفًا من التَّأثير عليهنَّ، “يلَّا يا شيوعيَّة حمَّام يلَّا يا شيوعيَّة تفتيش”(ص 197).
طلبَ السُّجناء، في فترة العدوان الثُّلاثي على مصرَ، من إدارة السِّجن تحريرهم من السِّجن لكي يتسنَّى لهم الدِّفاع عن الوطن، لصدِّ الإِعتداء الغاشم، للقتال في الجبهة دفاعًا عن مصر، وتعهَّدوا من انتهاء الحرب بالعودة إِلى السِّجن، حيث اشترك الشُّيوعيُّون الذين كانوا خارج السِّجن في أَعمال المقاومة ضدَّ العدوان، وهذا يذكِّرني بالشَّاعر الفلسطينيِّ الشُّيوعيِّ معين بسيسو الذي أَهدى ديوانه لجمال عبد النَّاصر حين أَصدر ديوانه وهو داخل أَسوارالسِّجن، إِحترامًا لنهجه وطريقه المعادي للإمبرياليَّة والتَّأميم والإصلاح الزِّراعيِّ، حيث كانوا يعتبرون الشُّيوعيِّين “..عملاء لبلد تاني” لكن بعد ذلك أُثبت للقاصي والدَّاني أَنَّ “الشُّيوعيِّين وطنيِّين”(ص 211)، وحين برزت الخلافات في العراق بين عبد الكريم قاسم وعبد السَّلام عارف، “نوع من الخلاف بين القوميِّين والشُّيوعيِّين”(ص 214)، أَعاد عبد النَّاصر زجَّ الشُّيوعيِّين في السُّجون..
تكتب نادية كامل في مذكَّرات والدتها فصلاً كاملاً عن تأسيس الإِتِّحاد الإشتراكيِّ وحلِّ الأحزاب الشُّيوعيَّة، لتعمل من خلاله حيث انقسم الشُّيوعيُّون ما بين موافق ومعارض، وضرورة إِقامة تنظيمٍ سرِّيٍّ داخل الإِتِّحاد بعلم عبدِ النَّاصر، “كان فيه استفزازات ومعارضة من الأُوروبيِّين للقوميَّة العربيَّة، ومن الرَّجعيَّة المصريَّة للمشروع الإِشتراكيِّ، وكتير من البلاد العربيَّة كانت بتضايق عبد النَّاصر”(ص 353)..
تحكي لنا أَيضًا عن عدوان حزيران وإِذاعة صوت العرب من القاهرة وكذب أَحمد سعيد، “بيزعَّعق ويحمِّس، وأَسقطنا خمس طائرات، وأَسقطنا عشر طائرات، كل ربع ساعة بالطَّريقة دي”(ص 357)، وكيف زحفت الجماهير بملايينها، بعد النَّكسة، بمطابة الزَّعيم جمال عبد النَّاصر بالعودة عن قرار الإِستقالة بعد نكسة حزيران، بعد أَن أَعلن أَنَّه يتحمَّل كامل المسؤوليَّة بهزيمة بلده، “أَنا أَتحمَّل مسؤوليَّة إِللي حصل وحاستقيل..”(ص 359)، وخرجت الجماهير بملايينها هاتفةً “عايزين نقاوم، عايزين نحارب، مش حنستسلم، حنحارب، حنقاوم حنقاوم”، “البلد كلَّها مظاهرات رفض الإستقالة”(ص 359).
بعد وفاة جمال عبد النَّاصر جاء محمَّد أَنور السَّادات بانقلاب سياسيٍّ حيث أَلغى إنجازات جمال عبد النَّاصر، وانقلب على مبادئ ثورة الثَّالث والعشرين من تمُّوز يوليو، ونهجه وأَلغى الإِتفاقيَّات مع الإِتِّحاد السُّوفييتي وقطَع العلاقة معه وطرد الخبراء السُّوفييت من مصرَ وأَعلن عن بدء سياسة الإِنفتاح الإِقتصاديِّ، واعتقل أَعضاء مجلس قيادة الثَّورة وأَلغى الإِتِّحاد الإِشتراكيِّ، وأَقال صحفيِّين مهمِّين من وظيفتهم، بل وهدَّد المعارضة بالإعتقال والتَّعذيب والقتل والفَرم، عبر خطاباته وعبر وسائل الإِعلام بمقولته الشَّهيرة “حَفْرُمهُم” ومقولته الثَّانية بأَنَّ كلَّ الأَوراق بأَيدي الأَمريكان. “فترة السَّادات كانت فترة وحشة..”(ص 377)، وساعد جعفر النُّميري رئيس السُّودان بحملته المسعورة على الشُّيوعيِّن هناك وساهم بتصفية قيادة الحزب السُّوداني عبد الخالق محجوب وهاشم العطا وجوزيف قرنق، حيث كانت ميول السَّادات مع الإِخوان المسلمين، وانتهى به الأَمر إِلى زيارة القدس وتوقيع الإتِّفاقيَّة والخروج عن الإجماع القوميِّ العربيِّ..
وقد اغتيل السَّادات في الثَّامن من تشرين الأَوَّل من العام أَلفٍ وتسعمائة وواحدٍ وثمانين، لقد مات اغتيالاً، حيث جاء في الرِّواية “لغاية السَّادات ما توفي” (ص 377) دون ذكر الإِغتيال.
أَصبحت ماري إِيلي روزنتال المولودة، ﴿..الموءودة..﴾ دون علم أَهلها، حين غيَّرت اسمها إِلى نائلة كامل بعد زواجها من المناضل سعد كامل، المولودة بسجلٍّ حافلٍ بالنِّضالِ والمقاومةِ وحبِّ الوطنِوالتَّفاني من أَجل عزَّةِ مصرَ وحرِّيَّتِها، ﴿..الموءودة..﴾ بمعاناة السِّجن والمعتقل والحياة اليوميَّة الصَّعبة والقاسية..
﴿وإِذا المَوءودَة سُئلَت﴾ ﴿بأَيِّ ذنبٍ قُتِلت﴾
وإِذا المَولودةُ ﴿..سُئلت﴾ ﴿بأَيِّ ذَنبٍ.. ﴾ اعتُقِلت وعُذِّبت وقُيِّدتواضطُهِدت وسُجِنت وأُسِرت وعوقبت وأَيُّ ذنبٍ اقترفت..
“ما اعرفش لحد النهاردة الحكم أخدته على أساس إيه. كانت محاكمة عسكرية، وما كانش فيه محامي وأنا ما اتحققش معايا”(ص224).
لقد أَعلنَت جهارًا وبشجاعةٍ منقطعةِ النَّظير دون خوفٍ “وكنت أَدِّيت نفسي وجسمي وروحي للفكر الشُّيوعيِّ الماركسيِّ المصريِّ الوطنيِّ هنا”(525)، وجاهرَت بمعادة الصَّهيونيَّة والمشروع الإِستعماريِّ برمَّته.
لفت نظري واهتمامي ما جاء في صفحة 535 في ذلك النَّصالذي أَنعشني بوصول كلمة الحقِّ والحقيقة إِلى العالم أَجمع “..وكمان لمَّا حضرنا مؤتمر المرأَة في نيروبي في كينيا وإِنتِ كنتِ معايا، شفنا السِّت الإسرائيليَّة زيبورا طوبي اتكلِّمت عن تزييف التَّاريخ في المدارس الإسرائيليَّة والسِّتَّات الصَّهيونيَّات في المؤتمر كانوا عايزين يموِّتوها من غيظهم منها”(ص 535)..
تحضر المرأَة المصريَّة بقوَّة في هذه الرِّواية وعلى جميع الأَصعدةوفي كلِّ الميادين، بمواقف وقرارت صعبة في مواجهة الإِحتلال وقوى الإِستعمار والرَّجعيَّة بشجاعة وإِباء، في المعتقَل والسِّجن وفي التَّحرير، وفي الحياة الثَّقافيَّة والفنيَّة والأدبيَّة وفي الحياة الإِجتماعيَّة..
أَنصح بقراءتها لأَنَّها رواية تسرد سيرة مناضلات ومناضلين في مصرَ، فهي رواية مائة عام من النِّضال في الحركة الشَّيوعيَّة المصريَّة والعمل السِّرِّيِّ، ودخول السِّجن “السِّجن يخلق الأَبطال”(ص 411)، حيث وجدتُ فيها شيئًا منِّي، في كتابتي عن سيرة والدي النِّضاليَّة والحياتيَّة ابراهيم تركي، في مؤلَّفاتي يوميَّات برهوم البُلشفيِّ وحيفا في ذاكرة برهوم وحماة الدِّيار وسفر برلك، نحفظها في ذاكرتنا ونسردها لأَطفالنا وشعبنا حتَّى لا تأكلنا الضِّباع..
لقد جاء في كتابي “حماة الدِّيار (ص9):
لقد أردْتُ تدوين الحقائق التَّاريخيَّة المعروفة التي ذكرتها في كتاباتي السَّابقة من على صحيفة الشَّعب، الاتِّحاد، النَّاطقة باسم حزبنا الشُّيوعيِّ في بلادنا، باقتضاب وتركَّزت في كتابتي على الحقائق المحكيَّة والمعيشيَّة اليوميَّة والتي لم تُذكر قط ولا يعرفها أَحد من خارج نطاق هذه القرية/المدينة أو تلك أو حتَّى يجهلها أهل القرية/المدينة الشَّباب/الشَّابَّات تمامًا، أو يتجاهلها عمدًا، وحتى لا تبقى في بوتقة محصورة ضيِّقة، محسورة في ذاكرة مجموعة مُعيَّنة من النَّاس، رفاقنا، ولا يعرف غيرنا عنها شيئًا، وأردتُ تدوين الحقائق حتى لا تكون عرضةً للضَّياع إذا لم يتمّ تدارك الأمر عاجلاً..
لقد قال الكاتب الفلسطينيُّ سلمان ناطور “ستأكلنا الضِّباع إِن بقينا بلا ذاكرة”..
لن تأكُلنا الضِّباع..