جزائرنا يا بلاد الجدود
- by منصة الراي
- July 5, 2017
- 0
- 4085  Views
- 0 Shares
د. خالد تركي حيفا
الخامس من تَمُّوز عام ألفٍ وثمانمائةٍ وثلاثين هو يوم احتلال الجزائر..
الثّالث من تَمُّوز عام ألفٍ وتسعِمائةٍ واثنين وستّين هو يوم استقلال الجزائر..
لقد احتلّ الجيش الفرنسي، بقيادة الجنرال بورمون، الجزائر بعد أن أحكم سيطرته على مرفأ سيدي فرج الواقع على السّاحل الغربي للعاصمة الجزائريّة، الجزائر، من ذلك العام، وتحرّرت الجزائر حين خرج آخر جندي وآخر مستوطن فرنسي، بقرار من الجنرال ديغول، من أرض الجزائر الطّاهرة بعد أن فقد سيطرته على هذا القطر وبالتّالي فقد سيطرته على مرفأ سيدي فرج بعد أن دام حكم فرنسا مائة واثنين وثلاثين عامًا وبعد أن روت دماء الشّهداء الزّاكِيَاتِ الطَّاهِرَات أرض الجزائر..
هذه الصُّدفة التّاريخيّة، هي الإشارة البديهيّة، أنّ الاحتلال، بشكل عام، مهما تمادى في غِيِّهِ وطال أمده ومهما صال وجال في بلاد غير بلاده وحكم شعبًا غير شعبه، تكون نهايته حتميّة، كما حدث للفرنسيّين، حيث يرجع إلى النّقطة التي دخل منها، يرجع إلى نقطة انطلاقه لكنّ بفوارق عِدّة أهمّها أنّه خرج خاسِرًا، خاسِئًا، مهزومًا، مطرودًا ومكروهًا بعد أن عاث في البلاد فسادًا من مصادرة أراضٍ صالحة للزِّراعة من الفلاحين أو الملاكين ليُصبِحوا أجيرين عند المستعمر وتحت رحمته في كلّ شاردة وواردة.
يكون مصير الاحتلال، دائمًا، الزّوال والجلاء إلى غير رجعة.
لقد صادر الفرنسيّون أراضي الفلاحين الجزائريّين الصّالحة للزّراعة و”منحوهم” كتعويض، أراضٍ غير منتجة وغير صالحة للزّراعة، وأن يعملوا في أراضيهم، المصادرة، برواتب هزيلة وزهيدة حتى يسيطر عليهم الخوف من البطالة ويحبط عزمهم وعزيمتهم للثّورة على المحتلّ الغاصب.
اعتمدوا أيضًا تجهيل السّكّان، ، فبعد احتلال الجزائر عام ألفٍ وثمانمائةٍ وثلاثين اعتبر المحتل
الفرنسي اللغة العربية لغة أجنبيّة إنطلاقًا من خطَّتهم لتكوين أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ أو شعبٍ من الأُمّييِّن،
شعبٍ مُنحطٍّ، خارج إطار البشريّة، حيث كانوا ينعتون المواطن الجزائري بالأنديجان وهي كلمة إحتقاريّة تعني المرحلة الوُسطى في تطوّر الإنسان، أي المرحلة ما بين الحيوان والإنسان.
لقد كتب جان بول سارتر في كتابه “عَارُنَا في الجَزَائِر” (ص 21): أنّ الإدارة الفرنسيّة قد صادرت دين العرب لكي تُبقيهم في التّجزِئة والتّفتّت، وهي تختار رجال الدّين من بين عملائها وقد حافظت على أحطّ أنواع الخرافات التي تُفرِّق النَّاس” ويكتُب زعيم الثّورة الجزائريّة، وأوّل رئيس للجمهوريّة الجزائريّة بعد الاستقلال أحمد بن بِلاّ في مذكَّراته أنّه كان قد تصدّى لمُعلِّمه في الصُّفوف الابتدائيّة الأولى حين نعت الأخيرُ النّبيَّ محمَّدًا بالكذّاب، قائلاً وهو يرتجف من شدَّة الغضب: “سيّدي تستطيع أن تقول هذا أمام أطفال. لأنّنا صِغار جدًّا. ولا نعرف شيئًا لكي نناقشك، ولكن يجب أن تفهم بأنّ ديننا مقدس بالنسبة لنا، كلا. كلا. إنّه ليس جميلاً منكم أن تقولوا هذا الكلام” (مُذكَّرات أحمد بن بِلاّ، كما أملاها على روبير ميرل ص 35). وعند سماع المدرّس جواب التّلميذ بن بِلاّ قام بتهديده بالطّرد، حيث كيف يجرؤ انديجان (حقير ومُنحطّ) أن يتخاصم مع أوروبي وأن يذكّره بحدود وظيفته، لقد كان وقعُ الانتقاد على المدرّس مهانةً، واعتُبِر تصرّف بن بِلاّ سيِّئًا وجديرًا بالعقاب.
كذلك حاولوا فرنسة الجزائر من خلال عمليّة تغيير سُكّانيّة، ديموغرافيّة، من أجل تحويل الجزائر العربيّة إلى جزائر فرنسيّة حيث قاموا بنقل مئات الآف المواطنين الفرنسيّين إلى الجزائر، ربّما تجاوز عددهم المليون، ولكي يُحكِموا سيطرتهم على البلاد، أكثر، انتهجوا سياسة الحديد والنّار ضدّ السّكّان الآمنين من اعتقال ونفي وإرهاب وتخويف وحرمان ومصادرة أراضي وإفقار الشّعب وإحالته لحالة العوز والحاجة والرّكض وراء الرّغيف.
لَم يتعلّم القائد أحمد بن بِلاّ في المدرسة غير فكّ الحروف العربيّة، لكنّه أتقنها على أكمل وجه
حتّى أنّه أصبح خطيبًا بارِعًا بعصامِيَّته البارزة وإرادته الصّلبة وقناعته وحبّه لحريّة بلاده وعروبتها
الجزائر هي وطن المليون ونصف المليون شهيد ومن الخطأ تعريفها ببلد المليون
شهيد لأنّنا بذلك نتجاهل نصف مليون من الأبطال والبطلات الذين روت دماؤهم الزكيّة تراب الجزائر العربيّة الطّاهر لتنال حرّيّتها واستقلالها وتسترجع عروبتها ويقينها ودينها وتحرّر أسراها وتُعيد منفيّيها إلى ديارهم وتحيي ذكرى شهدائها كما يليق بالشُّهداء أن يُكرَّموا..
كان أوّل لقاءٍ لي مع الجزائر في بيت عمّي داود تركي، أبي عائدة، من خلال
اسطوانة جزائريّة تحمل الأناشيد الوطنيَّة، كان قد أهداه إيّاها رفيق دربه المناضل الأممي عكيفا أور بعد أن عاد من إنجلترا، حاملاً هديَّته، حيث كان يعمل محاضِرًا في جامعاتها، وأنا ابن الخمسين ما زلتُ أذكر منها نشيدًا وطنيًّا واحدًا حفظته عن ظهر قلب، قبل أربعين عامًا أو يزيد، كنتُ حينها في الصّف السّادس، ونلتُ هديّةً ثمينةً من أبي عايدة، ما زلتُ أحتفظ بها إلى يومنا هذا، لحفظي تلك القصيدة، كانت الهديَّة رواية مكسيم غوركي، الأم. أمّا القصيدة التي حفظتُها هي قصيدة “جَزَائِرُنَا” من تأليف الشّاعر الجزائري محمّد الشّبوكي (شبايكي) والذي كانت جُلّ قصائده عن الثّورة والثُّوَّار وأهمّها كانت تلك القصيدة. لقد استعرتُ الاسطوانة من عمّي أبي عائدة كي نستمع لتلك الأناشيد الثّوريّة في إحدى احتفالات الشّبيبة الشّيوعيّة في حيفا لكنّها، مع انتهاء الحفلة، راحت أدراج الرّياح بعد أن استعارها أحد الرِّفاق.
حين وصلتُ جمهوريّة تشيكوسلوفاكيا بعد أن حصلتُ على منحة دراسيّة من حزبنا الشّيوعي، التحقت بكليّة الطّب في جامعة كُمِنْسْكِي في براتيسلافا، عاصمة سلوفاكيا، وهناك التقيت برفيقي نسيم خميس حيث عرّفني على رفيق من الجزائر، اسمه ربيع كان حينها طالبًا في كليّة الاقتصاد، حيث أتقن اللغة العربيّة بعد أن أنهى دورة في اللغة العربيّة عند زميله/نا ورفيقه/نا ومعلّمه خالد الذّكر د. إدوار الياس، وقد أعطاه أيضًا دروسًا في الفلسفة الماركسيّة، وحينها علّمنا زميلنا ربيع النّشيد الوطني الجزائري من كلمات شاعر الثّورة مفدي زكريّا وألحان الموسيقار المصري محمَّد فوزي. لقد كتب شاعرنا قصيدته وأرسلها إلى رفاقه من سجون فرنسا عام ألفٍ وتسعِمائة وستة وخمسين، حيث كان قابِعًا هناك وقد كانت تهمته الوحيدة أنَّه كان عُضْوًا في جبهة التّحرير الوطني. لقد اعتُقِل عدّة مرّات، كانت الأخيرة منها عام ألفٍ وتسعِمائة وتسعةٍ وخمسين حين فرّ من سجنه إلى مقرّ رفاقه السّرّي الذين أرسلوه إلى خارج حدود الجزائر، ليكون سفير جبهة التّحرير الوطني في الوطن العربي، ليُجنِّد الرّأي العام العربي والعالمي ويحشد ما استطاع من قوى سلاميّة وتحرّريّة ويساريّة لنصرة قضيّة شعبه العادلة في الحريّة والاستقلال والسّلام والاستقرار. لَم يثْنِهِ السِّجن أو الأسر أو التّعذيب، قيْد أُنملة، عن طريقه ومبدئه وحقِّهِ في النِّضال من أجل استقلال بلاده. كتب قصيدته من أسْرِهِ حيث أصبحت النّشيد الوطني للجزائر….
يختتم جان بول سارتر كتابه “عَارُنَا في الجَزَائِر” بالجملة التّالية (ص 61): “وإذا كنّا نودّ أن نضع حدًّا لهذه الأعمال الوحشيّة القذرة الكئيبة، وأن ننقِذ فرنسا من العار وننقِذ الجزائريّين من الجحيم، فليس أمامنا إلا وسيلة واحدة: أن نفتح المفاوضات ونعقد السّلام”
يقول لوسيان بيترلن، مؤسّس ورئيس جمعيّة التّضامن الفرنسي العربي ومناضل ومحارب فرنسي عنيد ضدّ منظمّة الجيش السّرّي الفاشيّة (جميع أعضائها من المستوطنين الفرنسيّين في الجزائر) التي اعتمدت العنف والقتل والتّهديد واضطهاد العرب في الجزائر، في كتابه “كُنَّا كُلّنَا إِرْهَابِيِّين” (ص 236): “وعندما يسيطر الاستعمار على أمّة ويمتهن كرامة مواطنيها ويفرض عليهم وضعيّة المحكومين القاصرين، فلا بُدَّ لهؤلاء المواطنين إذا أرادوا انتزاع حقوقهم كرجال أحرار ومسؤولين عن مصيرهم بأنفسهم، من أن يواجهوا الدّولة المستعمرة. فإذا أُغلقت أمامهم أبواب الشّرعيّة فلا خيار لهم غير النّضال، في الخفاء أوّلاً، ثمّ في العلن. لكنّ هؤلاء الرّجال الذين يناضلون من أجل كرامتهم سيكونون دومًا إرهابيّين في نظر المُستعمر”.
لَم يصل الشّعب الفرنسي وزعيمهم الجنرال ديغول إلى هذه القناعة من فراغ بل وصلها نتيجة مثابرة وثبات الجزائريّين في نضالهم من أجل تحرير أرضهم وإيمانهم بصدق طريقهم وحفاظهم على وحدتهم والعمل الدّؤوب على تجنيد جميع القوى الدّيمقراطية الفرنسيّة والعالميّة لتقف جنبًا إلى جنب مع الثّوّار الجزائريّين، طالبي الحريّة والاستقلال والعيش بكرامة.
لقد انتصر الشعب العربي في الجزائر بقوته ووحدته وإرادته ورباطة جأشه وتضحياته الجِسام وبدعم عربي كامل من تونس ومصر وليبيا وسوريا ولا ننسى الدّعم الكبير من المعسكر الاشتراكي وخصوصًا من الاتّحاد السّوفييتي.
كذلك كان للحزب الشّيوعي الفرنسي وللشيوعيين الجزائريين دورٌ بارزٌ في حرب التّحرير من خلال جبهة التّحرير الوطني، لكنّ ما حدث بعد استقلال الجزائر لَم يكن بنفس الرّوح التي كانت خلال حرب التّحرير حيث قامت بعض الفئات المدسوسة والمُغرِضة بالتّحريض العلني والمخفي على الشّيوعيّين للنّيل منهم ولزعزعة ثقة الجماهير بهم وحتّى بتصفية المناضلين الشّيوعيّين جسديًّا، تحت السِّلاح، حيث قاموا بذبح حتّى أولائك الذين تركوا أوطانهم، من فرنسيّين وغيرهم، من أجل تحرير الجزائر، بدلاً من أن تُنصب لهم أقواس النّصر.
وهنا لا يسعُني إلاّ أن استشِهد بما جاء في رواية أحلام مستغانمي “عَابِر سَرِير”
(ص 108) حوار بين من شارك في انطلاقة الثّورة وصنع نصرها:
– لكنّك توافق من يقول إنّ الثّورات يُخطّط لها الدّهاة، وينفّذها الأبطال، ويجني ثمارها الجبناء؟
– إن كان لي أن أختصر تجربتي في هذه الثّورات التي عايشت جميع مراحلها، فبتصحيح هذه المقولة القابلة للمراجعة في كلّ عمر. اليوم بالنّسبة لي، الثّورة تخطّط لها الأقدار وينفّذها الأغبياء ويجني ثمارها السّرّاق.
وحين هتف الثّوّار ليُنشدوا بأعلى حناجرهم في نشيد “جَزَائِرُنَا”، هتفوا نشيدهم
ليُسمِعوا الذين ﴿..يَجْعَلُونَ أَصَابِعُهُم في آذَانِهِم مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ ..﴾ أنّ من صنع النّصر هو الشّعب الذي بذل كلّ ما يملك لعزة وطنه ورفاهيّة أهله وبيته ووطنه ولولا الشّعب لما كان نصر ولا تضحية ولا ثوّار.
أقدّم للشّعب الجزائري في عيده الخامس والخمسين مليونًا ونصفَ زهرة قرنفل حمراء ليَضعها على أضرحة الثّوّار الشّهداء من جميلة بوحيرد وعلي بو منجل وبن صدّوق وجميع الرّفاق “الحمر” ولكلّ شهيد جزائري رهن روحه عِشْقًا لوطنه ووضع روحه على كفِّه لعزّة وطنه. كما ويطيب لي أن أهنِّئ المجاهدين القُدامى الذين صنعوا مجدَ شعبهم حيث قدّموا له شبابهم وصحّتهم ليكون الوطن حُرًّا وعزيزًا وسعيدًا. كذلك أُقدّم أحلى وأعطر الورود للأمّهات الصّابرات اللواتي بَكَيْنَ “دمعتين ووردة ولَم تَنْزَوِ في ثياب الحداد”.
ويا شعبنا في الجزائر صونوا بلادكم وشعبكم وحافظوا على مقدّراته ومقدّساته وحافظوا على بعضكم، وكلّ عام و”جَزَائِرُنَا” بمليون ونصف مليون خير.