“قلبي مثل الأسد” بقلم د. خالد تركي

غادرنا غيلةً دون أن يُعلمَنا عن موعد رحيله، غدَرنا وترَكنا على الأرض وراح يبحثُ عن معالم سدرة المنتهى، في السَّماء السَّابعة عن يمين العرش، حيث الابرار والاحرار والثُّوَّار والاخيار والشُّهداء، أم أنَّه ذهب لفترة وجيزة ليُقابل ذلك الشَّيخ المشقَّق الوجه، أبا محمَّد، ليُخبره أخبار مجزرة قد فاتته إخبار رفيقي بها، بين تجاعيد “عام الثَّورة الأوَّل” أو “عام القحط” أو “عام التَّشرُّد” أو “خطِّ الاحتلال” ام أنَّه يبحثُ وحده عن “خارطة لتاريخ فلسطين”، ليكتب عن ذكرى السُّقوط والنُّزوح والتَّشريد والتَّشرُّد ويسرد لنا وينشِّط الذَّاكرة في “ذاكرة”، إن نفعتهم، في ما صار ويوعدنا “ما نسينا”..

لقد ذهب الكاتب سلمان ناطور ليقابل الشَّيخ في عليائه ليسمع منه أحداثًا كان قد نسيها بين شقوق وجهه العميقة التي كان قد شقَّها ارهاب الإيتسل وما عاناه من شقاء طرد الهجناه للاهل سكَّان قرى السَّاحل أو الدَّاخل وذبح ودفن الأحياء بعد أن أجبرهم حفر قبورهم بأيديهم، أو ليُحدِّثه عن مجازر كانت قد ارتُكِبت وما زالت مدفونة في صدور الثَّكالى من الأمَّهات والشُّيوخ أو موصودة في عيون الأطفال ومكتومةً في صدورهم ليُدوِّنها من مكان إقامته الدَّائمة، قسرًا، ليعود الينا بعدها بكتاب لم نقرأه بعد..

أم أنَّه ذهب ليبحثَ عن اللاجئين في الشَّتات الذين ما زالوا يقرعون يوميًّا جدار مخيَّماتهم..

أم أنَّ قلبه قد غدَرَ به، فأتاه فتَّاكًا ليخطفه من بيننا، حيث أنزلَت عليه النُّوَبُ نوبةً ذبحت صدره فأتبعته بقلبه، ضاربةً أوعيته التَّاجيَّة، إكليل قلبه، فسقطَت دررُه ولآلئه وبقيت معنا دونَه، فالادبُ يبقى أجيالاً بعد رحيل كاتبه، وكذلك الإرث الثَّقافيُّ يبقى ما دام هناك قارئ، خالدًا من خلال مآثره وعمله وانتاجه وأدبه وأخلاقه والتزامه، كخلود سنديان الكرمل وبحر حيفا وزيتون رام الله..

لقد كتب رفيقنا المغادِر الى زيارة الرَّفيق الأعلى، سلمان ناطور ابو إياس، في كتابه “خمَّارة البلد” (نوبة قلبيَّة ص 109) حين كانت العائلة تخاف عليه من تلك الخائنة العائبة وتُلِحُّ عليه عيادة الطَّبيب قال: “قلبي مثل الأسد”، فقالت له زوجته: “روح على كوبات خليل”، (وهي تعني كوبات حوليم=صندوق المرضى بالعبريَّة)، “وهنا بدأت رحلتي مع الموت”..

لقد بدأت علاقتي برفيقي أبي إياس منذ أن بدأ يزور مكاتب صحيفة “الإتِّحاد” الحيفيَّة ومجلَّة “الجديد” الثَّقافيَّة ومطابعها في حيِّ وادي النِّسناس، في سبعينات القرن المنصرم، حيث كان يأنس بالحديث مع والدي، أبي خالد، خاصَّةً عن هذا الحيِّ العريق وعن صمود أهل حيفا ومواجهتهم لمخطَّط احتلالها وعن سقوطها وعن الرُّعب الذي لازم اهلها ودبَّ في لبِّهم.

وحين بدأتُ بالكتابة من على صحيفتنا الشَّريفة، “الإتِّحاد”، كنتُ أجد فيه مشجِّعًا وموجِّهًا من خلال تجربته الابداعيَّة وداعمًا بمبادرته واضعًا إقتراحاتٍ عينيَّة، قلَّما تجده عند باقي أدبائنا، وحين رأى مولودي الاوَّل، مؤلَّفي الأوَّل “يوميَّات برهوم البلشفيِّ” الصَّادر عن دار رؤى للنَّشر للاستاذ شربل عبُّود، والثَّاني، إصدار ذاتي، هاتفني واقترح عليَّ أن أرسل نسخًا لأعمدة الأدب العربيِّ، من اليهود العراقيِّين العرب الذين يعيشون في بلادنا (شمعون بلاص وساسون سوميخ وسامي ميخائيل) وهذا ما فعلتُ، ووصلتني منهم ردودٌ جميلةٌ مشجعةٌ وإطراءٌ كريمٌ، ما شجَّعني على الاستمرار..

لكنِّي لم استطع إيصال مؤلَّفي الثَّالث “من حيفا..هنا دمشق” له، الصَّادر عن “مكتبة  كلِّ شيء” لصاحبها الاستاذ صالح عبَّاسي، مع أنَّه خطرت ببالي تلك الفكرة منذ

الإصدار، واعتمدتُ على شخصٍ يوصله إليه، لكنَّ صديقي تأخَّر عليه أو أنَّ رفيقي بكَّر في رحيله!

لقد التقيتُ به حين زار أبو إياس في الشَّهر الفاتح للعام ألفين وثمانية، رفيقي د. عصام زين الدِّين الذي كان يومَها سكرتير منطقة حيفا للحزب الشُّيوعي، مسلِّمًا إيَّاه نسخةً من رسالة كان قد ارسلها إلى الرَّفيق محمَّد نفَّاع، الذي كان حينها السِّكرتير العام لحزبنا، طالبًا فيها العودة إلى صفوف الحزب الذي لم يخرج منه البتَّة ولم ينتمِ لحزب آخر، وكنتُ حاضرًا ومشتركًا ومستمِعًا لحديثه الطَّيِّب الذي جاء أيضًا في رسالته “أكتب إليك لتجديد عضويَّتي في الحزب، شيوعيًّا كان انتسب قبل ثلاثين عامًا بقناعة تامَّة أنَّ الطَّريق إلى السَّلام والعدالة والمساواة يرسمها من يحمل الفكر الأمميَّ والثَّوريَّ التَّقدميَّ والعلمانيَّ والمحرَّرَ من العصبيَّات القوميَّة والغيبيَّات وكلِّ أشكال الاستغلال، وهذا الفكر يصوغ الحلم الذي يبعث الأمل ويرسم ملامح القضيَّة التي تضمن التَّجدد ومواصلة العمل والفعل، رغم التَّحديات، بل في مواجهة التَّحديات”. وكان قد اختتم رسالته:

“أولئك كلُّهم قومي، بدأت معهم قبل ثلاثين عامًا ومعهم سأمضي ما تبقَّى لي من سنين”، وهنا يقصد رفاقه اليهود “الذين تدرَّبوا على كيفية السِّباحة ضدَّ التَّيار الصَّهيونيِّ دون أن يُغرقهم أو يجرفهم” (أعضاء الحزب الشُّيوعي والجبهة خ.ت.) ويقصد أيضًا رفاقه العرب الذين “يتوهَّجون حرارةً ثوريَّةً ونضاليَّةً”..

وقد التقيته حين كتَبَ “وأنا اليهوديُّ الأخير” (ستُّون عامًا، رحلة الصَّحراء ص 240) فقد  اقتبستُه لأكتب “أنت يهوديٌّ طيِّبٌ” (من حيفا..هنا دمشق ص 95) في قصَّتين متشابهتين، في تزامنٍ نادرٍ بين قراءة ما كتبَه وتدوين ما سمعتُه..

فالأولى حين أقلَّ كاتبنا عجوزًا يهوديًّا، كان قد سئم الانتظار، من محطَّة قرب سجن شطَّة إلى بيسان إلى حيِّ إلياهو حيث كاله مديحًا “أنت يهوديٌّ طيِّب”، “ولم يبقَ هنا يهود طيِّبون” بينما في قصَّتي أكتبُ عن أبي سليمان الذي أقلَّ حاخامًا بعد انتظار طويلٍ وعسيرٍ دون أن يجد أحدًا يقلُّه إلى بيته، فقال له رجل الدِّين انت أحسن يهودي في هذه البلاد، في النِّهاية يعرف العجوز وكذلك الحاخام أنَّ من نقله هو عربيٌّ، وهنا كانت المفاجأة!

ألتقي معه في الفكر المنير والنَّيِّر على درب النِّضال والكفاح من أجل حقوق العاملين والفلاحين والمساواة والسَّلام العادل والثَّابت والتقي معه كما كتب في رسالته: “بالانتساب إلى الحزب الشُّيوعيِّ الطَّليعيِّ في مجابهة الفاشيَّة في الماضي والحاضر”، “وفي صفوف الحزب الشُّيوعيِّ الذي شكَّل، ولا يزال، القوَّة الأماميَّة في هذه المعركة”..

والتقي معه في مؤازة الشَّام وحبِّ الشَّام وأهل الشَّام في التَّصدِّي للعدوان الكونيِّ  عليها..

والتقي معه في الانتماء العربيِّ والعروبيِّ الذي نعتزُّ به..

والتقيتُ معه في بيت المناضل أبي عائدة، داود تركي، حين قدَّم له قصيدته “يا رافض التَّجنيد” لنشرها في نشرة خاصَّةٍ، حيث جاء فيها:

يا رافِضَ التَّجْنِيدِ رَفْضُكَ رايَةٌ  لِيَصُنْ رَفيفَ بَهائِها اسْتِمْرارُ

يا رافِضَ التَّجنِيدِ إن هان الحِمى هُنَّا وهانتْ للعِدى أدوارُ

لقد غادرنا رفيقنا ابو إياس دون وداعٍ، معذورًا، وغاب ربَّما ليرتاح استراحة المقاتل لكنَّنا نلتقيه في كلِّ ما كتب ونلتقيه في كلِّ نصر لشعوبنا، وسنُكمِل الطَّريق كما آمن واقتنع بنصرها الآتي، ونحن على موعد مع الحتميَّة التاريخيَّة لصالح الشُّعوب في بناء مستقبلها!

وسنلتقي حتمًا..

ونحن على موعدٍ أكيدٍ في اليوم الموعود ﴿إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الميعَاد﴾ وهذا الأمر أيضًا حتميٌّ وحقٌّ..

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*