سَفَر بَرْلِك (الجزء الثالث) – د. خالد تركي حيفا

“من برَّا رخام ومن جوَّا سخام”..

ذات يوم، بينما كان يوسف يبيع الكستناء الطَّازجة والمشويَّة، في ساعات عطلته من العسكريَّة لكفاف يومه، على قارعة الطَّريق بجانب أحدى الحوانيت وإذ بسيِّدة تطلب منه بعضًا من الكستناء، أكلت ما تسنَّى لها، وما اشتهت نفسُها، وحين فتَّشت في محفظتها عن نقود، لتدفع له، فلم تجد غِرشًا واحدًا، فاعطته طفلها، ريثما تُحضر له النُّقود، وتستطيع دفع ثمن الكستناء، وتذهب من بعدها لشراء بعض حاجيَّاتها وحاجِيَّات طفلها من البقَّالة المجاورة، فأخذ طفلها منتظرًا عودتها. وحين طال انتظاره “زَيِّ اللي بستنَّا بعقلاتو” ولم تعد السَّيِّدة لأخذِ طفلها الرَّضيع، أصابت يوسف حيرة مُحْرجة لا مخرج منها وأسئلة لا أجوبة عليها، “ولعب الفار في عبُّو” أين يضع يوسفُ، وهو في بلاد الغربة، الطِّفلَ؟ كيف يُطعِمُهُ إن أخذه؟ فهو بالكاد يُطْعِم نفسه، حيث كانت ماهيَّته العسكريَّة لا تتجاوز الخمسة غروش صاغ، ولا تكفيه لكفاف نصف يومه. ماذا تفعل الخمسة غروش للجندي؟ أهل تكفيه “لتوتونه” أم لحمَّامه أم لحلاقة ذقنه أم لمصروفه اليَوميِّ؟ ..”إنَّ هذا هو الظُّلم بعينه. فتبًّا لحكومة تبخِّسُ بحقوق جنودها” (8)، وإن قرَّر أخذه، فهو في بلاد لا يعرف فيها أحدًا غير معسكره وضابطه، وهو لا يعرف مسكنًا ولا ملجأً ولا جارًا ولا مُجيرًا سوى فكرة ساورته، أن يضع الطِّفلَ عند باب أقرب جامع يجده في طريقه، ويتركه هُناك ليمضي إلى حال سبيله.

ذهب إلى الجامع المُجاور ووضع الرَّضيع عند مدخله وهَمَّ بمغادرة المكان وشعَرَ بارتياح، أثلجَ صدره وما في قفصه، شعورٌ بالسَّكينة والطَّمأنينة زغردَت له أضلعه، حيث لم يحظَ بهذا الاحساس منذ أن غادر بلده، وحين همَّ بالخروج من باب الفرَجِ وإذ بإمام المسجد يقطع ارتياحه وراحته ونفَسَه، بعد أن أمسك بيوسف متلبِّسًا بالتُّهمة قائلاً:

آه! يا بزَوَنك دينْسِز كاوِر (المعرَّس\المعرَّص الذي لا دين له، زنديق وكافر)! هو أنت الذي يأتينا كلَّ يومٍ بطفلٍ وتضعه قرب باب الجامع، لقد “قفشناك”، “أدبسيز أخلاق يوك” (بدون أدب وبدون أخلاق)، “نَيدَن بو” لماذا تضع الأطفال هنا كلَّ يوم، فقال له يوسف بعد ان استعاذ ﴿..بربِّ النَّاس﴾ أن يحميه من الشَّرِّ ﴿..في صدور النَّاس﴾ الذي يُدخله ذلك اللعين ﴿..الخنَّاس﴾، فعسى بذكر ربِّ النَّاس يختفي شرُّ النَّاس ويغيب الشَّرُّ عنه..

شعر يوسف بخفقانٍ مُريبٍ في صدره كاد يُطيِّر قلبه من سجنه، حيث ركَّب الخوفُ لقلبه اجنحةً ليطير به إلى حرِّيَّته، لكنَّ الدَّم احتقن في عروقه وتجمَّدت أجنحة قلبه في قفصه، وغسل العرقُ جلدَه، وبدأ يطلبُ رحمةَ الرَّحمن، علَّ الرَّحيم يرحمه من ظلم عسكر آل عثمان وهو يقول لهم “يواش يواش” على هونكم يا جماعة، بعد أنْ صاح الإمام مُناديًا المُصلِّين، ويستنفرهم “هادي بَكَالِم يا روم، هادي بَكَالِم”، هيَّا يا جماعة لِنرى، ليُمسِكوا بيوسف ريثما يُحْضِرُ له الضَّابطَ العسكريَّ ليتدبَّر أمر ذلك الذي أصبح يُشكِّل مصدر إزعاج يوميٍّ بوضعه طفلاً  كلَّ يوم. فقد أتوا بالطِّفل الذي تُرِك قبل يوم وحمَّلوه ليوسف وهكذا حمل الطِّفليْن معًا، وحمَّلوه مسؤوليَّتهما. “فالمصيبة وَاحِدَةٌ فإذا جزع صاحِبُها صارت اثنتين” فكم بالحريِّ مصيبتان وخوف وهلع وجزع من كلِّ مصيبة!

أيصبرُ على المصيبةِ ويكسب أجرًا عند الرَّحمن، وتسعمائة درجة عند الرَّحيم..

استُر يا ساتر واستُر يا ستَّار على عبدك يوسف..

فبعد أنْ كان يوسف المسكين في مشكلةٍ واحدةٍ أصبح يحمل مُشكِلتين. وعندما حضر الضَّابط، قصَّ عليه يوسف روايته فطلب منه أنْ يودع الوديعتين، الرَّضيعين، في ملجأ فاطمة خانم الواقع في حيِّ القصبة في مركز المدينة. فذهب إلى هناك ووضَعَ الطِّفلين في الملجأ وعندما همَّ بالخروج، صادف يوسفُ زوجَ فاطمة خانم يدخل البيت فصرخت بأعلى صوتها لسببٍ لم يعرفه يوسف: آه كودجا! آه زوجي! وإذ بباب الخزانة والسَّبَتِ والحمَّام يُفتح ومن كلِّ باب يخرج عشيقٌ، فتعجَّبَ زوجُها ويوسفُ من رؤية هذا المنظر حيث سارعت للقاء زوجها لتعانقه وتُسمِّي عليه بأسماء الله الحُسنى جميعها كي تَطرُدَ الشَّيْطان من قلبه وعقله وفكره ويُكذِّب حقيقةَ ما رأى، وبذلك تكون زوجته “العفيفة” صادقة وأنَّ ما رآه حقيقةً، يكون قد شُبِّه له، وتكون قد قطعت شكَّه، رؤيته، بيقينها، بحيلتها، وحينها يتحمَّل الزَّوج إثمَ بعض الظَّنِّ. وهكذا تكون فاطمة، الحاضِنة و”الحاضِنة”، فاطمة “فاهنشي”(الزَّانية(، فاطمة الجميلة تشو غوزال، قد درأَت الحدودَ بالشُّبُهات.

عاد يوسف، وفي ذهنه يجول حديث الإمام عليٍّ بن ابي طالب (كرَّم الله وجهه) حين قال: “كمُطعمة الزُّهَّاد من كدِّ فرْجها لَكِ الوَيْلُ، لا تَزْنِي، ولا تَتَصَدَّقي”، عاد هاربًا من بيت فاطمة خانم وملجئها، إلى المعسكر، ودخل غرفة رئيس الدَّرك بعد أن سمح له بالدُّخول بقوله: خوشِّي غالدي، أي أدخُل، فأجابه يوسف داخِلاً: صفا بُولْدِي، فدخلَ. استجوبه عمَّا حدث، لقد كان عليه ان يُطيع اوامر الضَّابط طاعةً عمياء. وسُمح له بدخول ساحة المعسكر ووجد جنود فرقته يتعلَّمون نشيد العسكر التي تدلُّ كلماته على وجوب طرد المحتلِّ من دياره وأنَّ الاحتلال إلى زوال، آفلٌ لا محال، ونصر الضُّعفاء أكيد..

حدث مرَّةً أن رأى جنديًّا يُجلَد تارةً على ظهره السَّافر وأخرى فلقةً على قدميه الحافيتين، لعدم تنفيذه امرًا عسكريًّا!

كيف يُنفِّذ أوامرهم في أمر غير مقتنع به! مُكرهٌ أخاك لا بطل!

وكأنَّ جنود آل عثمان الذين احتلُّوا بلادنا موجودون في بلادهم، “راكبين ع ظهورنا ومادِّين اجريهم”..

لقد علَّموهم عن ظهر قلب النَّشيد العسكريَّ:

أسكر أسكر أسكر لك (التَّطوُّع للجيش)

سفر بر لك ديبرلك

جناق قلعة إيتشريدا (داخل منطقة تشانكالي)

دو شمان الدِك (حاصرنا العَدُوَّ في قلعة تشنال).

وتشانكالي هي مدينة تقع غرب استامبول، شبه جزيرة غاليبولي، حيث حدثت فيها معركة بين التَّحالف الثُّلاثيِّ (دول المركز)، العثمانيِّين والألمان وإيطاليا والامبراطوريَّة النمساويَّة الهنغاريَّة من جهة وقوَّات الحلفاء (الوفاق الثُّلاثي) بين روسيا القيصريَّة وانجلترا وفرنسا، حيث كان النَّصر فيها للعثمانيِّين الذين كانوا قد خسروا جميع معاركهم في ذلك الوقت، من العام الف تسعمائة وخمسة عشر، ممَّا عزَّز ورفع من معنويَّات الاتراك، لكنَّها كانت آخر معركة ينتصر فيها آل عثمان، فبعد سقوط المانيا ودخول الولايات المتَّحدة الأمريكية مع انكلترا وفرنسا، سقط جميع حلفائها، منها الإنسان المريض العثماني، لكنَّ اهميَّة المعركة هو أن كسِبت روسيا القيصريَّة منفذًا بحريًّا يُطِلُّ على البحر الأبيض المتوسط، “لتكون لها مياهًا دافئة” ويُذكر انَّ وينستون تشرتشيل كان قائد البحريَّة الانجليزيَّة بينما كان مصطفى كمال اتاتورك قائد الجيش العثمانيِّ، وكما تعلمون أنَّ روسيا خرجت من الحرب بعد انتصار البلاشفة في ثورة اكتوبر الاشتراكيَّة العُظمى التي غيَّرت وجه تاريخ العمَّال والفلاحين والمضطهَدين والمسحوقين، وفضحت مؤامرة الاستعمار على شرقنا العربيِّ..

وتسمَّى هذه المعركة، ايضًا، بمعركة مضيق الدَّردنيل، لأنها نشبت في منطقة المضيق، الواقع بين شبه جزيرتي البلقان وآسيا الصُّغرى، ويصل بحر مرمرة بالبحر الإيجيِّ، وفيها مقبرة كبيرة وشواهد لقبور لجنود شاركوا في الحرب وقُتِلوا وتُبيِّن الشَّواهد على وجود قتلى عرب من فلسطين ولبنان وسورية ومن دول البلقان ايضًا.

وتُسمَّى أيضًا معركة غاليبولي..

وحين انتهى من الانشاد، قصَّ على أصدقائه ما حصل معه في ذلك اليوم، حتَّى يحذِّر كلَّ واحد منهم، ويحثَّهم على اليقظة والانتباه، وحتَّى لا يؤتَى حذِرٌ من أيِّ مأمنٍ، إذا نزل المدينة. بعد أنْ سقط الرَّجل المريض العثماني في الآستانة، (كما كان يُلقِّبه قيصر روسيا نيكولاي الأوَّل على الإمبراطوريَّة العثمانيَّة في سنوات الخمسين من القرن التَّاسع عشر)، فريسة في فكَّي فرنسا وانكلترا وروسيا القيصريَّة، ووزَّعوا تِرْكَته، بعد أن وقَّعوا على اتِّفاقيَّة سايكس بيكو (نسبةً للفرنسيِّ جورج بيكو والانجليزيِّ مارك سايكس) في مدينة القيصر بطرس الكبير، بيتربورج او بيتروغراد، عام ألفٍ وتسعمائة وستَّة عشر والذي يقضي بتقسيم أراضي الوطن العربيِّ، في السَّاحل الشَّاميِّ للبحر المتوسِّط، (منطقة الهلال الخصيب) الواقعة تحت السَّيطرة العثمانيَّة بين هذه الدُّول الثَّلاث، إلا أنَّه بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكيَّة العُظمى في روسيا القيصريَّة، بقيادة فلاديمير ايليتش لينين، في العام ألف وتسعمائة وسبعة عشر، في السَّابع من شهر تشرين الثَّاني حسب التَّقويم الغربي، كَشَفَ فاضِحًا بنود الاتِّفاقيَّة وفتَّح أعين القوميِّين العرب الذين خُدِعوا من الانكليز تحت الغطاء الهاشميِّ، ممَّا أدَّى لاحِقًا إلى تبلور حركةٍ ثوريَّةٍ عربيَّةٍ قوميَّةٍ مناهِضةٍ للاستعمار والرَّجعيَّة العربيَّة.

أرسل يوسف رسالة إلى أمِّه يُخبرها فيها بعودته القريبة إلى بلده، بعد سقوط “رجل اوروبا المريض”، في الحرب العُظمى الأولى، وانتصار الغرب عليه، وانتهاء الحرب، فاستلمت أمُّه الرِّسالة ولم تعرف قراءتها ولم تجد أحدًا يقرأها سوى ابنها الأصغر، مع أنَّها تعلَّمت في المدرسة الإرساليَّة التَّابعة لمؤسَّسة “راهبات الورديَّة”، دروسًا في الدِّين والصَّلوات وفي الأدب العربيِّ كما وحفظت الأشعار، عن ظهر قلب دون أن تتعلَّم القراءة أو الكتابة، حتَّى لا تتكاتب لاحِقًا مع أترابها وأصدقائها في البلدة، نزولاً عند طلب مختار البلدة من الرَّاهبات، وذلك حسب رغبة الأهالي وابناء العائلات.

عاد إلى بلدته، حيث استقبله أهله ورفاقه وجيرانه بحفاوة بالغة وفرِح والداه به وبعودته سالِمًا بعافيته وغانمًا بصِحَّته، حيث احرنجم الأهل والأصدقاء من اترابه من حوله ليقُصَّ عليهم ما رآه هناك، وسألوه عن باقي أصدقائه من أهل البلدة فأخبرهم عن جميع الذين كانوا معه فمنهم من عاد معه ومنهم سيعود لاحقًا ومنهم من قضى نحبه هناك ومنهم من بقي في تلك البلاد ومنهم من ضاع في بلاد الله الواسعة، كصديقه صديق.

عاد يحدِّث عن شوقه لأهله وربعه وخلانه واهل حارته وبلدته وكيف كان يحرقه الشَّوق للُقياهم وكيف كان يتألَّم لألمهم ويجوع لجوعهم، وقد حرقه شوق البُعاد..

عاد ليوقظ فيهم روح الحميَّة للذَّود عن حياض الوطن، ورفع راية الجهاد ضدَّ المستعمرين البريطانيِّين والفرنسيِّين، الذين احتلُّوا بلاد الشَّام، ، وضدَّ المتعاونين معهم، الخَوَنة، من ابناء جلدته..

لقد جاء في كتاب جبران خليل جبران، العواصف، في فصل “مات أهلي” الذي كتبه في مهجره: “مات أهلي وأنا قيد الحياة أندبُ أهلي في وحدتي وانفرادي..مات أهلي جائعين، ومن لم يمُت منهم جوعًا قضى بحدِّ السَّيف..لو كنتُ جائعًا بين أهلي الجائعين، مضطهَدًا بين قومي المضطَهَدين، لكانت الأيَّام أخفَّ وطأةً على صدري، والليالي أقلَّ سوادًا أمام عينيَّ، لأنَّ من يُشاركَ أهله بالأسى والشِّدَّة يشعُرُ بتلك التَّعزية العُلويَّة التي يولدها الاستشهاد، بل يفتخرُ بنفسه لأنَّه يموت بريئًا مع الأبرياء..ماتوا لأنَّ الثُّعبان الجهنَّميَّ قد التهم كلَّ ما في حقولهم من المواشي..”.

ما أشبه اليوم بالأمس، دون أن يُعيد التَّاريخ نفسَه.

فشلت عمليَّة التَّتريك، من تجهيل وترحيل، وبقي الشَّعب العربيُّ مُحافِظًا على قوميَّته ولغته وعاداته وتراثه وكيانه..

أخفقت عمليَّة النَّقل السُّكَّاني (الترانسفير) وبقي الشَّعب العربيُّ أبيًّا، عزيزًا وكريمًا وشهمًا وأبيًّا في وطنه.

رغم الجوع والحرمان والبطش والمهانة والتَّنكيل والتَّرحيل بقي شعبنا صامدًا، مناضلاً، مجاهدًا وجاهِدًا في تحقيق عزَّة بلده، “زاهِدًا فيما سيأتي” مفتخرًا ومفاخِرًا بما مضى!

تآمر “الثَّالوث الدَّنس” وتكالب الاستعمار والصَّهيونيَّة والرَّجعيَّة العربيَّة على شعبنا وانتصرت المقاومة الشَّعبيَّة الباسلة رغم انفهم، حين عرفَت كيف تُحافظ على مكاسبها، وعرفت كيف تؤكل الكتف، وعرف شعبنا بمناضليه وعقيدتهم، كيف تُلاطم الكفُّ المخرز وتلويه حول وسطاه ليكون ليِّنًا وطيِّعًا وخائفًا وخاتمًا في اصبع المقاومة..

لكنَّ الوطن الكبير ما زال مقسَّمًا ومنقسمًا ومشرذِمًا إلى “أوطان”، بين مذاهبه وطوائفه كما يريده لنا اعداؤنا والمتربِّصون بنا..

بقيَ الأملُ حيًّا، لأنَّ الأمل لا يموت أبدًا، إنَّه مزروع في أفئدتنا وبه نحيا ويوحي لنا بالنَّصر الأكيد، “راح يجي وتكون الشَّمس حرَّاقة ويصفرُّ القمح، والمنجل بحدُّو اللامع يحملو الحصَّاد البارع”..

بقيَ الفلُّ والياسمين والزَّهر والعِنَّاب والتِّين والزَّيتون والخرُّوب والسِّنديان والبلان والبيلسان والزَّعرور والبلُّوط والقندول والبُطُم والسَّرِّيس والصُّبَّار والعوسج والقتاد والبرتقال والليمون رغم همجيَّتهم..

بقي النَّورس مُحَلِّقًا فوق شواطئنا وفي سمائنا وما زالت طيور السُّنونو تُعشعشُ بين الفنن وفي زوايا الصُّخور، وبقي هديل الحمام وتغريد اليمام على الأغصان يبكي جوخته “يا جوختي”، علَّها تعود، وتُحضر لعروس البحر الشَّامي عباءة من الجوخ الأصلي، رغم رصاصهم..

بقيت المحبَّة والمودَّة رغم حقدهم وجسارتهم ولؤمهم..

رحل الغُزاة، “الأفاعي أبناء الأفاعي” وبقي أهل الشَّام..

رحل العُثْمانيُّون وانصرفوا إلى غير رجعة وبقي لنا الهواء والسَّماء والغبراء والماء والبحر والصَّخر والحجر والزَّهر والطَّير والجبال والوديان والإنسان وبقيت الأوطان.

وبدأ يوسف مرحلته الثَّانية بعد ان فهم المؤامرة، وبعد أن رحل العثمانيُّون عن بلاد الشَّام، وقاسى وعانى الأمرَّين في “المنفى القسري” عند آل عثمان، في تجنيد اترابه واصدقائه ومعارفه في البلدة والضَّاحية والجوار في خلايا منظَّمة ضدَّ الاستعمار البريطانيِّ والفرنسيِّ وآل صهيون وتحذيرهم من رجعيَّة العربان، وتحشيد كافَّة القوى المستعدَّة للتَّضحية، بقوله “طاب الموت” في سبيل عزَّة الشَّام ومجدها وكرامتها وحرِّيَّتها وعروبتها، فشامنا سكبها مجدٌ..

 فهِمَ يوسف اللعبة، وحين فهِم يوسف أصبح يقظًا “مثل حمار الوحشِ..”، “وشجاعًا مثل موج البحر..” “ومخيفًا مثلما النَّمر مخيف”، لن يسكتَ على الظُّلم بعد، وفهم أن “ما بحك جلدك غير ظفرك”، “آه كم يصبح..(يوسف) مخيفًا إن فهم”، وبدأ يُعدُّ العُدَّة لمواجهة الثَّالوث الدَّنس ﴿وأَعِدُّوا لَهُم ما استَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِباطِ الخَيْلِ..﴾، في سبيل حرِّيَّة الشَّام….

رحل يوسف عن الحياة، وبقي أحفاده على خُطاه، يكمِّلون الطَّريق ويُتابعون المسير ويحفظون المسيرة ويرسمون المصير المُزْهر لا محالة، على هُداه وعلى خُطاه، في سبيل عزَّة الوطن وشرفه ووحدته..

رحلوا وبقيْنا..

رحلوا وصمدنا..

رحلوا وبقي أهل البلد..

“يرحلون ونبقى والأرض لنا ستبقى”

انقلع آل عثمان وبقي اصحاب الأرض على العهد، فخير القول الصِّدق، “وشرُّ القولِ الكذبُ”..

وخيرُ العهد والوعد الوفاء..

ولا يبقَى في الوادي غيرُ حجارته، ولا يبقى في الوطن غير أهله..

 فليشربوا البحر..

  • الدون الهادئ، ميخائيل شولوخوف، الجزء الثَّاني ص 20
  • كتاب “عام الجراد، الحرب العُظمى ومحو الماضي العثماني من فلسطين، سليم تماري، يوميَّات جندي مقدسي عثماني 1915-1916، مؤسَّسة الدِّراسات الفلسطينيَّة، مؤسَّسة الدِّراسات المقدسيَّة، ص 21.
  • أحمد حسن الزَّيَّات، تاريخ الأدب العربي ص 388
  • والآستانة هي منطقة تربط بين قارَّتي أوروبَّا وآسيا، وتتكوَّن من ثلاثِ مُدُن برِّيَّة، يفصِلُ بينها ثلاثة بحار. والأقسام البرِّيَّة هي استامبول في الجنوب وبك أو غلي بيرا في الشَّمال وكلاهما في أوروبَّا وأسكودار في الشَّرق وهي في آسيا، ويفصل بينها البوسفور في الشّمال الشّرقي ومرمرا والدَّردنيل في الجنوب وقرن الذَّهب في الغرب الشَّمالي (الانقلاب العثماني، جرجي زيدان، روايات تاريخ الإسلام صفحة 45).
  • الدون الهادئ، ميخائيل شولوخوف، الجزء الأوَّل ص 360
  • كتاب “القدس العثمانيَّة في المذكَّرات الجوهريَّة، الكتاب الأوَّل من مذكَّرات الموسيقيِّ واصف جوهريَّة 1904-1917، تحرير وتقديم سليم تماري وعصام نصَّار، مؤسَّسة الدِّراسات المقدسيَّة ص 190.
  • كتاب “عام الجراد، الحرب العُظمى ومحو الماضي العثماني من فلسطين، سليم تماري، يوميَّات جندي مقدسي عثماني 1915-1916، مؤسَّسة الدِّراسات الفلسطينيَّة، مؤسَّسة الدِّراسات المقدسيَّة، ص 176.
  • كتاب “عام الجراد، الحرب العُظمى ومحو الماضي العثماني من فلسطين، سليم تماري، يوميَّات جندي مقدسي عثماني 1915-1916، مؤسَّسة الدِّراسات الفلسطينيَّة، مؤسَّسة الدِّراسات المقدسيَّة، ص 137.

 (حيفا)

Post Tags:

Total Comments ( 6 )

  • زاهد حرش شفاعمرو says:

    لغتك جميلة رائعة يا رفيق وتوصيفك وتسلسل الفكرة حول الصمود والبقاء كأنها الحلم المشبع بالتمني في قلوب عشاق هذا الوطن.. يعطيك العافية

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*