فلسطين عشيّة النّكبة (2) – إسكندر عمل

مقاتلات ومقاتلون فلسطينيون في ثورة 1936

في 17 أيّار 1939 أصدرت حكومة بريطانيا الكتاب الأبيض الثّالث وأوضحت أنّ هدفها إقامة دولة مستقلّة في فلسطين في بحر عشر سنوات تكون فترة انتقاليّة بين الانتداب والاستقلال، وترتبط فيها فلسطين ببريطانيا بمعاهدة تضمن للبلدين مصالحهما التّجاريّة والعسكريّة. وستنفّذ الحكومة البريطانيّة التّدرّج في الحكم الذّاتي، وسيساهم الشّعب الفلسطيني في الشّؤون الإداريّة في هذه الفترة الانتقاليّة بنصيب متزايد مع مراعاة النّسبة العدديّة بين العرب واليهود في الوظائف الرّئيسيّة.
وتطرّق الكتاب الأبيض لقضيّتين أساسيّتين هما: الهجرة اليهوديّة وانتقال الأراضي العربيّة لليهود.
أ. أن تُحدّد الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين خلال السّنوات الخمس التّالية بحيث لا يتجاوز عدد المهاجرين اليهود 75 ألف مهاجر، ولا يُسمح بعد هذه الفترة بدخول أي مهاجر الا بموافقة السّلطة التّشريعيّة والتنفيذيّة (بأكثريّتهما العربيّة).
ب. لا يوجد في بعض المناطق أي مجال لانتقال الأراضي من العرب لليهود، ولهذا لا بدّ من وضع القيود على انتقال الأراضي في بعض المناطق، إذ كان يُراد احتفاظ المزارعين العرب بمستوى معيشتهم الحالي والحيلولة دون تكوين جماعة كبيرة من العرب ممن لا أرض لهم(6).
إنّ بريطانيا أصدرت هذه الكتاب عشيّة اندلاع الحرب العالميّة الثّانية لمنع انضمام القيادة القوميّة التقليديّة إلى جانب الإمبرياليّة الألمانيّة.
رفضت الحكومات الموالية للإمبرياليّة البريطانيّة الكتاب الأبيض وعلى رأسهم محمد محمود رئيس وزراء مصر والملك سعود ، وتبعت الّلجنة العربيّة العليا موقف الدّول العربيّة، وأصدرت بيانا” سجّلت فيه على الحكومة البريطانيّة تسليمها نظريّا بمطالب العرب وانتقدتها على الغموض في النّصوص. مؤكّدة أنّ اليهود سيعملون كل ما في وسعهم عكس ذلك لإحباط هذه الخطط”.(7)
أمّا القوى الدّيمقراطيّة الفلسطينيّة والّتي عبّر عنها المؤرّخ الوطني محمد عزة دروزة، فقد رأت أنً قبول الإنجليز بمبدأ قيام الدّولة الفلسطينيّة بأكثريّة عربيّة كان نجاحا عظيما وانجازا من انجازات ثورة 1936 -1939 (8).
أمّا رد الفعل الصّهيوني فكان رفض ومقاومة الكتاب الأبيض وكأنّ هتلر غير موجود ومحاربة هتلر كأنّ الكتاب الأبيض غير موجود.
في الواقع لم يكن هذا الكتاب الا محاولة من محاولات بريطانيا تهدئة الوضع في فلسطين، لكن الموقف الرّسمي البريطاني لم يتغيّر. وظهر ذلك واضحا في تصريحات تشرتشل بعد اصدار الكتاب ، بأنّه انتهاك صارخ لتعهّدات التزمت بها بريطانيا على رؤوس الأشهاد،وتصريح إمري بأنّه لا يجرؤ على رفع رأسه خجلا إذا قرأ هذا الكتاب، والنّقد العنيف الّذي وجّهه مجلسا العموم والّلوردات للكتاب الأبيض. ومن ردود الفعل الأخرى، عدم موافقة الولايات المتّحدة على الكتاب الأبيض، كي تكسب لها مواقع في الشّرق، من خلال تأييدها للحركة الصّهيونيّة ومعاداتها للحركة القوميّة العربيّة.

  • التّواطؤ البريطاني مع المنظّمة الصهيونيّة في أثناء الحرب

قامت الحركة الصّهيونيّة مع بداية الحرب العالميّة الثّانية بزيادة قوّة الهاجاناه وحصّنت المستوطنات اليهوديّة، وبدأت بتقوية شبكة استخبارات منتشرة، وبنت مخازن السّلاح تحت الأرض في المستوطنات والأحياء اليهوديّة، واحتوت هذه المخازن على كميّات كبيرة من القنابل والمدافع والمتفجّرات والبنادق. وقد نشطت المنظّمة الصّهيونيّة إلى شراء السّلاح بكل الوسائل، وأنشأت معسكرات تدريب عديدة كانت سرّيّة، وحتى بعد اكتشافها لم تعبأ بها السّلطات الإنجليزيّة. لكن سلطات الإنتداب كانت تبرز حادثة أو حادثتين لإيهام العرب بأنّها تقاوم التّنظيم المسلّح اليهودي. ففي 1940 حاكمت يهوديّا بعد اكتشاف تخزين للسّلاح في مستوطنة “بن شيمن”، وفي عام 1943 حكمت على عدد من اليهود بتهمة سرقة أسلحة من معسكرات بريطانيّة، لكنّ العقاب في هذه الحالات كان خفيفا، بينما كانت تصدر أحكاما قاسية كالإعدام على العرب المتّهمين بحمل مسدّسات أو بنادق.(9)
ونرى التسامح البريطاني مع المنظمات الارهابيّة الصّهيونيّة حتّى المتطرّفة منها كالإيتسل والّليحي فكانت تعتقلهم وتفرج عنهم خلسة، ويعترف فان روي أحد الضّبّاط الإنجليز:” كانت الحكومة البريطانيّة تهشّ في وجه ” الهاجاناه” بالرّغم من ّأنّها منظّمة إرهابيّة، وانّ هذه الأخيرة كانت تتظاهر بأنّها تقدّم بعض المعلومات التّافهة عن منافسيها، ونتج عن ذلك أنّ الهاجاناه لاطمئنانها إلى تسامح السّلطات الحكوميّة معها راحت تعتدي على البوليس ذاته وضد خفر السّواحل الّذين كانوا يرصدون الهجرة غير الشّرعيّة، بينما راحت السّلطات الحكوميّة تتصرّف معها إزاء هذه الاعتداءات تصرّف الاب الحنون مع ابنه الشّقي المحبوب.”(10)
أمّا سياسة الإدارة البريطانيّة تجاه العرب فكانت معاكسة، ففي السّنوات الأولى للحرب حاولت بريطانيا إيهام العرب في فلسطين برغبتها في تنفيذ توصيات الكتاب الأبيض لعام 1939 ، ومن هذه المحاولات اتّصالات الكولونيل نيوكمب عام 1940 بنوري السّعيد وعن طريقه بجمال الحسيني وموسى العلمي، وكان اقتراحه البدء بإيجاد مجلس مديرين ثمّ السّير في مراحل تدريجيّة لتطبيق الكتاب الأبيض، لكن هذه المبادرة توقّفت عند هذا الحد ولم يُطرح الموضوع ثانية.
الحقيقة أنّ بنود الكتاب الأبيض لم تنفّذ، فقضيّة انتقال الأراضي العربيّة لليهود، تُرِكت فيها ثغرة، إذ سُمِح لأصحاب الأملاك الغائبين في سوريا ولبنان ببيع أراضيهم في المنطقة الّتي يُحظر فيها بيع الأراضي العربيّة لليهود. وكان المفروض حسب الكتاب الأبيض، أن تبدأ بريطانيا بعد خمس سنوات من إصدار الكتاب أي عام 1944، بتنفيذ تعهداتها باستقلال فلسطين . لكنّها فعلت عكس ذلك، فقد أهملت الإدارة البريطانيّة نداء رؤساء بلديّات فلسطين العرب الّذين عقدوا مؤتمرا لهم في العام 1944 طالبوا فيه بريطانيا بتنفيذ الكتاب الأبيض. وقد وصل التّنكّر البريطاني إلى حد اتّخذ فيه مؤتمر العمّال البريطاني عام 1944 قرارا يدعو إلى تهجير العرب من فلسطين وتوطينهم في الأقطار العربيّة لتسهيل تحويل فلسطين إلى دولة يهوديّة.(11)
بعد الحرب كل شيء كان جاهزا ، ولم يكن وضع اليهود وضع الضعيف بعد
النازية كما يحاولون تصويره، ويظهر ذلك جليا في تصريحات القيادة الصهيونية: ناحوم غولدمان رئيس المؤتمر الصهيوني صرح في 21.8.1946 “الصهيونيون على استعداد لمنح بريطانيا حقوقا كاملة لإقامة قواعد عسكرية وبحرية وجوية في فلسطين مقابل موافقتها على إقامة دولة يهودية في 65% من مجموع أراضي فلسطين.”
ليس هذا فقط، فقد أظهر الصهيونيون صبغتهم الكولونيالية ورغبتهم في التعاون مع بريطانيا لقمع الحركة القومية العربية في فلسطين من منطلق قوة .”إذا كان العالم في كل محاولة قام بها لتحويل الصحاري إلى أرض خصبة ، إنتظر قبل ذلك موافقة قاطني الصحراء القلائل فإنّ المدنية ما كانت لتنتصر على التأخر في أي موقع.”

  • الحركة القوميّة العربيّة

انّ مقاومة الإنتداب منذ اليوم الأول كأحداث عيد النّبي موسى 1921 ، تدل على
وعي الجماهير للخطر الصهيوني،ولم يقتصر عمل الجماهير العربيّة في فلسطين على المقاومة ضد الاستعمار البريطاني والصّهيوني، بل أقدمت هذه الجماهير بعد تصريح تشانسلور عام 1929 ، على القيام بحركة مقاطعة للإنتاج والبضائع اليهوديّة، وقد بلغت المقاطعة حدّا باهرا في يافا، حيث أجبرت الجماهير مجلس بلديّة المدينة على اتّخاذ قرار بمقاطعة شركة كهرباء فلسطين(روتنبرغ) وإنارة المدينة بالمصابيح(لوكسات).(12)
ولكن تدريجيا بدأ التّفاوت تنظيميا بين الحركة القوميّة العربيّة والحركة الصهيونية، في ظروف تأييد الإمبريالية البريطانية للصهيونية وتعاظم القوة العسكرية والاقتصادية اليهودية. إضافة لذلك كون قيادة الحركة القومية العربية متهادنة مع الانتداب حفاظا على مصالحها الاقتصادية الإقطاعية. وخلقت حكومة الإنتداب صراعا داخل القيادة الفلسطينية بين العائلات الإقطاعية كالحسيني والنشاشيبي، مما أضعف هذه القيادة.
لم تستغل القيادة التّقليديّة تعاظم المد الجماهيري ولم تستثمر شعور الأمّة المعادي لبريطانيا، للضّغط عليها لكسب بعض التّنازلات لصالح الشّعب، بل على العكس فقد رجع الحاج أمين الحسيني، الّذي بدأ يعمل على توطيد زعامته السّياسيّة، بمطالب الأمّة إلى الوراء. ففي رسالته الّتي أرسلها إلى جريدة التايمز ووجّهها إلى الشّعب البريطاني في تشرين الأول 1929 ، لم يتعرّض للسّياسة البريطانيّة الاستعماريّة في البلاد، وهاجم الصّهيونيّة فقط واقترح حلًّا” أمّا الطّريقة الوحيدة لإنصاف الجميع فهي إنشاء حكومة نيابيّة تمثّل الفريقين تمثيلا نسبيّا”.
(يتبع)

 

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*