الاستعمار الفرنسي للجزائر العربيّة (1) – اسكندر عمل

 

 

قائد الثورة عبد القادر الجزائري

أخطأ دي بورمون في حسابه، إذ اشتعلت المقاومة للاحتلال مع سماع أنباء احتلال مدينة الجزائر، فقد هبّت مقاومة شديدة من قِبَل القبائل في مختلف أنحاء الجزائر، واستعملوا تكتيك الأراضي المحروقة ولم يتركوا للفرنسيّين أي مورد للمؤن. وكانت حركة المقاومة في الغرب بقيادة عبد القادر الجزائري وفي الشّرق بقيادة الباي أحمد حاكم منطقة قسنطينة.

 قامت قناة الميادين الّلبنانيّة بحفل تكريم رائع لبطلة الثّورة الجزائريّة جميلة بو حيرد، وحضر الاحتفال شخصيّات لبنانيّة وعالميّة، وعندما دار حديث عن جميلة في سياق نقاش في المدرسة لاحظت أنّ الأجيال الشّابّة لا تعرف الكثير عن الجزائر العربيّة واستعمار فرنسا لها والمقاومة الّتي بدأت منذ اليوم الأول للاحتلال عام 1830،ولم تتوقّف إلّا بالحصول على الاستقلال بعد ثورة المليون ونصف المليون شهيد عام 1963.
في هذه الدّراسة سأكتب صفحات من هذا التّاريخ لاعتقادي انّ تذكّر التاريخ هو ليس للتّغني بالأمجاد كما يعتقد البعض، لكن كي يكون رافعة لتجدّد النّضال ضدّ كل اشكال الهيمنة، وللتّأكيد على ما قاله الشّاعر التّونسيّ الكبير:
إذا الشّعب يوما أراد الحياة    فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بدّ للّيل أن ينجلي    ولا بدّ للقيد أن ينكسر
وقعت الجزائر العربيّة تحت نير الاستعمار الفرنسي عام 1830، لكنّ أطماع فرنسا في هذا القطر العربي بدأت قبل هذا العام، فقد كانت ضمن التّخطيطات الّتي رسمها نابليون الأول، وصرّح بذلك مرارا في اجتماعاته باسكندر الأول قيصر روسيا في تلست عام 1807 وأرفورت 1808، حين تحدّث عن الجزائر كجزء من ممتلكاته المقبلة. في العام 1808 أرسل نابليون المهندس العسكري الفرنسي بوكين إلى الجزائر سرًّا لأجل القيام بتصويرات طوبوغرافيّة ووضع خطّة مفصّلة للاقتحام. لكنّ الهزائم الّتي مُنِي بها في إسبانيا وروسيا أجبرته على العدول عن هذه المشاريع، وكان لهذه المسوح الطّوبوغرافيّة أهمّية وفائدة لفرنسا في استعداداتها للهجوم على الجزائر عام 1830.

*دوافع احتلال الجزائر*

كانت الدّوافع الاقتصاديّة هي الدّوافع الحقيقيّة لاحتلال فرنسا للجزائر، إذ كانت فرنسا بعد الثّورة الصّناعيّة متعطّشة لأسواق جديدة لبضائعها، كذلك رغب الملّاكون الفرنسيّون الّذين أفقدتهم الثّورة الفرنسيّة أملاكهم الاقطاعيّة ولم يستطيعوا استردادها حتّى في فترة شارل العاشر(1824- 1830)، رغبوا في الحصول على اقطاعيّات بديلة في الجزائر، وهناك دوافع متعلّقة بأسرة بوربون الّتي عادت إلى الحكم في فرنسا بعد القضاء على نابليون وبعد مؤتمر فينّا الرّجعي، فقد رأت في احتلال الجزائر عاملا يوطّد حكمها في فرنسا ويزيد من الشّعور الشّوفيني الفرنسي ويمنع أو يعيق اندلاع الثّورة. كذلك موقف الدّول الاستعماريّة الأخرى كروسيا القيصريّة وبريطانيا الّلتين لم تبديا أيّة مقاومة حازمة للمخطّطات الفرنسيّة.
كانت هذه هي الأسباب الحقيقيّة للاستعمار الفرنسي للجزائر، لكنّ فرنسا اختلقت أسبابا أخرى كي تجد مبرّرا للهجوم ومن هذه الأسباب، أنّ الحاكم في الجزائر كان حاميا للقرصنة البحريّة في شواطئ البحر المتوسّط الجنوبيّة، وهذا الإدّعاء لم يكن صحيحا، إذ أنّ حركة القرصنة كانت ضعيفة بعد أن أنزلت بها الأساطيل الأمريكيّة والأوروبيّة ضربات قاضية في نهاية القرن الثّامن عشر. وسبب آخر من الأسباب الّتي تذرّعت بها فرنسا، ضربة المروحة، وهي تتلخّص بما يلي: زوّدت الجزائر فرنسا فترة حروب نابليون بالمواد الغذائيّة المختلفة وتحوّل ثمنها إلى قروض تسدّدها فرنسا للجزائر، حاولت فرنسا في فترة شارل العاشر مماطلة الجزائر، وكان المفاوض الفرنسي القنصل الفرنسي في الجزائر بيير ديفال نذلا وذا سمعة مشبوهة، فدبّر المكائد والأكاذيب، وفي آخر لقاءاته مع الحاكم الجزائري”الدّاي”، أهانه إهانة شديدة فضربه الدّاي بمروحة الذّباب، وكانت هذه الضّربة الذّريعة الّتي انتظرها الفرنسيّون طويلا للبدء في الهجوم على الجزائر.

• احتلال الجزائر

في 25 أيّار 1830 غادر ميناء طولون اسطول فرنسي مؤلّف من مئة سفينة حربيّة وخمسمئة سفينة تحمل المؤن، ووصلت الشّاطئ الجزائري في 31 من أيّار وحاولت الرّسو في سيدي فرج إلّا انّها غيّرت اتجاهها، وتبيّن فيما بعد أنّ الأسطول الفرنسي أنزل بعض أعوانه لشراء النّاس كي يمهّدوا النّزول بدون خسائر وبدون مقاومة. في 8 حزيران عمّم القائد الفرنسي نداء للجزائريّين يشرح لهم الإهانة الّتي تعرّض لها “بيرق فرنسا” ويهدّد “الدّاي” ويتوعّده بأنّ مصيره قد اقترب، وطلب من النّاس أن يبقى كل انسان في بيته أوعمله وسيضمن لهم سلامتهم وأملاكهم وحرّية العبادة. وكان النّداء مكتوبا بلغة تنمّ عن حبّ، لكنّ هذا الدّهاء الفرنسي سرعان ما انكشف عندما بدأ النّهب والسّلب والاعتداء على المقدّسات.
في 14 حزيران 1830 نزلت القوّات الفرنسيّة الّتي بلغت 37 الف مقاتل على شاطئ سيدي فرج على بعد 22 كم غرب مدينة الجزائر، من هذا الموقع تستطيع القوّات المحتلّة أن تأتي مدينة الجزائر من الخلف ولا تتعرّض لها من الوجه الحصين.
وصل الفرنسيون هضبة في ضاحية مدينة الجزائر تعرف باسم قلعة الامبراطور وأضحت المدينة في متناول أيديهم برّا، وتحت رحمة اسطولهم بحرا. طلبوا من الدّاي الاستسلام فرفض في البداية ثمّ رضخ ووقّع صكّ الاستسلام في الخامس من تمّوز 1830، ونصّ صك الاستسلام على “أن يحتفظ الدّاي بأمواله الخاصّة وأن يغادر البلاد إلى حيث يشاء، كما ضمن القائد الفرنسي للمسلمين حرّية ممارسة طقوسهم الدّينيّة واحترام حقوقهم الشّخصيّة وحريّة الملكيّة والتّجارة والصّناعة وغير ذلك” ( إحسان حقّي، الجزائر العربيّة ص64 ). لكنّ هذا الضّمان كان حبرا على ورق، قد نهب الجنود الفرنسيّون وسلبوا وأفسدوا وجاروا وظلموا، وقد نهب جيش الاحتلال ما يعادل 50 مليون فرنك من الخزينة الجزائريّة.
بعد احتلال مدينة الجزائر كتب قائد القوّات الفرنسيّة المحتلّة دي بورمون بغطرسة وعجرفة في تقرير إلى باريس “ستخضع المملكة كلّها لنا في غضون خمسة عشر يوما دون أيّة طلقة” (بونداريفسكي، الغرب ضدّ العالم الإسلامي، موسكو 1985، ص155)، لكنّ الاحتلال فشل في اخضاع البلاد كلّيّا نتيجة للمقاومة والحركة التّحرّريّة الجزائريّة الّتي بدأت بمقاومة الاحتلال منذ اليوم الأوّل.

• الحركة التّحرّريّة وعبد القادر الجزائري

أخطأ دي بورمون في حسابه، إذ اشتعلت المقاومة للاحتلال مع سماع أنباء احتلال مدينة الجزائر، فقد هبّت مقاومة شديدة من قِبَل القبائل في مختلف أنحاء الجزائر، واستعملوا تكتيك الأراضي المحروقة ولم يتركوا للفرنسيّين أي مورد للمؤن. وكانت حركة المقاومة في الغرب بقيادة عبد القادر الجزائري وفي الشّرق بقيادة الباي أحمد حاكم منطقة قسنطينة.
كان عبد القادر قائدا فذّا وخطيبا ملهما يسحر السّامعين وكاتبا بارزا. في العام 1832 انتخبته قبائل غرب الجزائر قائدا لها وهي قبائل هاشم وبنو عامر وغرابة، واستطاع التّغلّب على التّجزّؤ الإقطاعي والقبلي، وكبّد الفرنسيّين خسائر كبيرة بعد أن مُنِيَت قوّاتهم بهزائم كبيرة، حتّى أنّ الفرنسيّين اعترفوا بعظمته وحنكته وبراعته العسكريّة، فقد كتب المؤرّخ الفرنسي، أوغستاف برنارد عن عبد القادر: “على الرّغم من أنّه ابن الزّوايا والطّرق أظهر الأمير (عبد القادر) حنكة سياسيّة وبراعة عسكريّة فائقة وكان يتمتّع بصفات تدلّ على أنّه خليق ليحكم… وبالتّالي كان له الهدوء الدّبلوماسي المسلم، وكان أجلّ وأبرز أعدائنا في الجزائر”.
نتيجة للمقاومة البطوليّة الّتي قادها عبد القادر، اضطرّت فرنسا بواسطة حاكم وهران “دي ميشيل” التّوقيع على معاهدة دي ميشيل. وكان عبد القادر بحاجة إلى فترة من الهدنة لإعادة تنظيم قوّاته، وقد اعترفت فرنسا في هذه المعاهدة بقيام دولة عربيّة جديدة برئاسة عبد القادر في غربي الجزائر ما عدا ثلاث مدن ساحليّة كانت تحت سيطرة القوّات الفرنسيّة، وهذا يعني اعترافا فرنسيّا بإمارة عبد القادر على الجزائر. لكنّ فرنسا حاولت التّنكّر لهذه المعاهدة مدّعية أنّ دي ميشيل وقّعها دون موافقة الحكومة الفرنسيّة.

 

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*