عبد الناصر، بطل واجه القضايا حتى النهاية (1) – اسكندر عمل
- by منصة الراي
- January 3, 2018
- 0
- 2988  Views
- 0 Shares
في الذَكرى التّسعين لميلاد البطل القومي العربي جمال عبد النّاصر كتبت سلسلة مقالات نُشرت في صحيفة الاتّحاد الحيفيّة ،صحيفة الحزب الشّيوعي،وبمناسبة الذّكرى المئويّة لميلاد هذا الزّعيم العظيم سأقوم بىشر هذه المقالات مجدّداً في منصّة الرّأي في أربع حلقات.
* على الأجيال الشابة أن تعرف الحقائق التاريخية وأن لا تنخدع ببقايا محاولات الاغتيال المعنوي بالتشويه بالنسبة لجمال عبد الناصر
*لا يمكن إلا نقف مشدوهين أمام انجازات الثورة خلال السنوات الأولى وسط مؤامرات الامبريالية والصهيونية وأحلافهما. *الثورة لم تكن مجرد ثورة في قطر عربي واحد بل كانت بداية لمد ثوري قومي عربي،لذلك حاولت الامبريالية خنق هذه الثورة وإجهاضها.
* الثورة لم تنخدع بجزرة الاستعمار ولم ترضخ وتستسلم لعصاه.*
ثورة 23 يوليو كانت دراما مجيدة عاشتها مصر خلال عشرين سنة بانتصاراتها وانجازاتها وكبواتها، ولا يمكن لأية دراسة موضوعية أن تنظر إلى هذه الثورة كأحداث مقطعة للتركيز على عثرات هذه المسيرة، بل يجب تقييم الثورة من خلال رؤية شاملة لدورها الوطني والقومي كقائدة للمد الثوري القومي العربي الذي طغى أثره على العالم العربي من المحيط إلى الخليج.ولا يمكننا ألاّ نقف مشدوهين أمام ثورة حققت في سنيّها القليلة الأولى، بعد عشرات السنين من الاحتلال والاستعمار،مكاسب رائعة على الصعيدين الداخلي والخارجي من خلال مواجهة لا تعرف المهادنة ضد الاستعمار والامبريالية كتأميم قناة السويس والوقوف في وجه العدوان الثلاثي وتسليح الجيش المصري لمواجهة العدوان الإسرائيلي الذي بدت بوادره في الهجوم على غزة مباشرة بعد توقيع حلف بغداد.لم تكن هذه الخطوات الجريئة نزوة فرد ولم تقم من فراغ،بل كانت محاولة لتحقيق الأماني القومية لمصر.
إزاء المحاولات المتكررة والمقصودة للتقليل من أهميّة هذه الثّورة، يجب أن تعرف الأجيال التي لم تواكب الثّورة، الحقائق ولا تُخدع بأساليب تزوير هذا التّاريخ المشرّف للحركة القوميّة العربيّة، فهناك من وقف وراء محاولات الاغتيال المعنوي لجمال عبد النّاصر بالتشويه وعلى رأسها المخابرات الأمريكيّة، والتي نجحت في السّابق في الاغتيال المعنوي بالتشويه بالنسبة لسوكارنو في اندونيسيا ونكروما في غانا، لكنها فشلت في الاغتيال المعنوي بالتشويه بالنسبة لشو إن لاي في الصّين وأنديرا غاندي في الهند. وكان الأسلوب الذي لا زالت بعض أركانه باقية، التّركيز على الجوانب السّلبيّة لكي تضرب بها الجوانب الايجابيّة الضّخمة، ومن ثمّ تطمس بذلك وجه الحق في التّجربة كلّها وتصبح شهادة التّاريخ مطيّة للأحقاد وأداة من أدوات المخطط المرسوم.
خطوات الثورة لم تكن عشوائية أو ارتجالية بل كانت تعبيراّ عن مراحل الثورة الوطنية والثورة الاجتماعية لجماهير مصر. بدأت بمنشورات حركة الضباط الأحرار قبل الثورة ثم تلتها” المبادئ الستة” بعد الثورة مباشرة ثم” فلسفة الثورة” عام 1954 ثم” ميثاق الثورة” عام 1962 و” بيان مارس” 1968 وكلها كانت مدروسة وهادفة وفاجأت القوى الاستعمارية التي اعتبرت رجال الثورة للوهلة الأولى “أولاداً” كما وصفهم السفير الأمريكي في القاهرة ووزير الخارجية الأمريكي دالاس.
ثورة يوليو واجهت المؤامرات الامبريالية التي بدأت تحاك ضدها مباشرة بعد الثورة ونجحت في هذه المواجهات واضعة بريطانيا وفرنسا وإسرائيل والولايات المتحدة أمام ثورة ستقود المد الثوري القومي العربي والحركة القومية العربية لعقدين من الزمن.
لم تكن ثورة يوليو مجرد ثورة في قطر عربي واحد، بل كانت بداية لمد ثوري قومي، وهذا ما أدركه الغرب والولايات المتحدة ولذلك حاول هؤلاء خنق هذه الثورة وإجهاضها وهي في بداية الطريق، أو محاولة الاستيلاء على الثورة وتحويلها إلى انقلاب كولونيلات بوليفي أو برازيلي، وبرز ذلك كما سنرى لاحقاً في قضيّة تمويل بناء السد العالي ومحاولة احتواء الثورة وحرفها عن طريقها مقابل هذا التمويل، ولمّا رأت أنّ ذلك مستحيل، جاء الرفض الأمريكي الذي اشتمل على دعوة الشعب المصري أن يتخلص من حكومته التي سوف تسوقه إلى المجاعة. وهذا ما حدث بالنسبة لطلب مصر تزويدها بالسلاح عام 1953، فقد اشترطت الولايات المتحدة ذلك بتوقيع مصر على ميثاق الأمن المتبادل ومعناه أن تأتي “بعثة أمريكية” تشرف على الجيش المصري. أما انجلترا فقد اشترطت تزويد مصر بالسلاح أن يصمت عبد الناصر في مؤتمر باندونغ وأن يدعهم ينفذون خطّتهم في الأحلاف العسكرية كحلف بغداد وغيره. ولم يكن دور البنك الدولي الذي كان خاضعاّ للتأثير الامبريالي الأمريكي والغربي أفضل،فقد كانت شروطه لتمويل السد كما يقول عبد الناصر “أن يرسل لنا البنك الدولي من يجلس مكان وزير المالية وآخر يجلس مكان وزير التجارة وثالث يجلس مكاني أنا.”
أدرك عبد الناصر مخاطر مثل هذه المطالب، فقد كانت تجربة تركيا التي أغدقت عليها الولايات المتحدة من خلال مشروعها الاستعماري “مشروع ترومان” المساعدات والمعونات المالية عام 1947 بحجة حماية تركيا من” المد الشيوعي”، فماذا كانت النتيجة ؟ كان دخل الفرد في تركيا عام 1953 (556 ليرة تركية) فأصبح 490 ليرة عام 1954 أي هبط بـ 66 ليرة خلال عام واحد، وأوشكت تركيا على الإفلاس عام 1956. وتجربة فيتنام الجنوبية التي غمرتها الولايات المتحدة بالمساعدات المادية،فماذا كانت النتيجة ؟ هبطت مساحة الأراضي المزروعة بالأرز من 6200000 عام 1939 إلى 4026100 دونم عام 1955 وهبط إنتاجها الصناعي 1955 بمقدار 50% عما كان عليه قبل الحرب وزاد سعر الأرز وهو الغذاء الرئيسي للجماهير.
أما بالنسبة لحلف بغداد فقد وقفت مصر ضده منذ البداية رغم محاولات الغرب تحذير مصر من مغبة رفض محتمل لهذا الحلف بواسطة شرطي الامبريالية إسرائيل التي توغلت بقواتها العسكرية في الثامن والعشرين من شباط 1955 أي بعد أربعة أيام فقط من إقامة حلف بغداد وخلفت وراءها خمسة وأربعين شهيداّ وعشرات الجرحى، ومفهوم هذا العدوان القول للمصريين “أنتم لا تملكون سلاحاّ ولا تجدون من يحميكم وأملكم الوحيد أن تدخلوا قطعاناّ في حظيرة حلف بغداد”. كان رفض جمال عبد الناصر حاسماّ وصرًح بشكل واضح “لا، لن تنضم مصر لحلف بغداد”.(شهدي عطيّة الشّافعي، تطور الحركة الوطنية المصريّة).
رئيس الحكومة البريطانيَة ايدن لم يخف أهداف الغرب من هذا الحلف، ففي خطاب له في مجلس العموم البريطاني قال: “إن الهدف الذي نتوخاه من الانضمام لميثاق بغداد هو تعزيز نفوذنا ورفع صوتنا في شؤون الشرق الأوسط وقيام تعاون وثيق متواصل بين القوًات المسلًحة لكلا القطرين (انجلترا والعراق). أما بالنسبة لموقف الحلف من إسرائيل قال ايدن: “إن الغرض من هذا الميثاق هو صرف نظر العراقيين إلى اتًجاه آخر، ولما كان الإسرائيليون أناساّ أذكياء جدًاّ، فقد تصوًرت أن هذا الميثاق سيجعلهم في أمن ودعة.” (شهدي عطيًة، نفس المصدر). لذلك لو قبلت مصر الانضمام لحلف بغداد فهذا يعني :
*فرض صلح مع إسرائيل يكون في مصلحتها فقط.
*أن يخرج الانجليز من القنال ليعود الانجليز مرة أخرى ومعهم الأمريكان والفرنسيون والأستراليون والأتراك، لا لاحتلال منطقة القناة بل لاحتلال مصر كلّها باسم الدفاع عنها من خطر موهوم _ خطر” الغزو الشّيوعي “.
*أن تتحوّل ميزانيّة مصر إلى ميزانيّة حرب كما تحوّلت ميزانيّة تركيا.
*أن تهدم كل سياسة تصنيع البلاد وأن تفلس الصّناعات النّاشئة.
*أن تقوّض الثقافة الوطنيّة فيصبح ثقافة استعماريّة.
لقد صوّر عبد النّاصر هذا الحلف وأمثاله بـ “أحلاف الذّئب والحمل، ولا بدّ أن يأكل الذّئب الحمل”.
إن معارضة عبد النّاصر لحلف بغداد لم تكن دفاعاً عن استقلال مصر السّياسي وكيانها الاقتصادي ضد الاستعمار فقط، بل كانت دفاعاّ عن الكيان العربيّ كلّه واستقلاله السّياسي والاقتصادي، وقد أثبت العدوان الثلاثي الاستعماري على مصر صحة نظر الشّعب المصري وحكومة الثورة بالنسبة لطبيعة هذا الحلف.
إن مصر لم تكتف برفض حلف بغداد، إنما شنّت حملة سياسيّة عليه، وهذا يؤكد الدّور القومي العربي الذّي قادته الثّورة، إذ كانت إستراتيجية السّياسة المصريّة أن تعزل العراق عن الدول العربيّة، حتى تؤدي ظروفه الداخليّة إلى رفض هذا الحلف والعودة إلى شقيقاته العربيّة، ومقاومة كل المحاولات من جانب الدّول الغربيّة الضّغط على الدّول العربية للدّخول في الحلف ولجأت إلى سياسة المحالفات الثّنائية وإزالة الشّكوك وتحطيم العقبات التي كانت تحول دون تنسيق وترابط الكفاح العربي وتجلّى ذلك بشكل رائع في مناصرة كل الدّول العربيّة لمصر لدى تأميمها لقناة السّويس، حتى العراق الدّاخلة في حلف بغداد قد اضطرت إلى تأييد مصر ولو ظاهريّاً، كما تجلّى في الإضراب الجماعي يوم 28 أكتوبر احتجاجاً على الغدر الفرنسي بزعماء الثورة الجزائريّة، كذلك وبشكل بارز في المعركة المسلّحة ضد العدوان الثلاثي الاستعماري على مصر.
كان مؤتمر باندونغ في نيسان 1955 خطوة عبد النّاصر المقبلة في تصدّيه للامبرياليّة، فقد كانت الدّول المجتمعة فيه تجمعاً جديداً معادياً للامبرياليّة وقد أوضح عبد النّاصر في خطابه أمام المؤتمر وقوف مصر موقف المدافع عن الحريّة ورفاهيّة الشعوب وتأييد مبدأ تقرير المصير لكافة الشّعوب وأكد على ضرورة التّعاون من أجل تصفية الاستعمار وإيقاف ألاعيب الضغط السّياسي التي بها تعمل الدّول الكبيرة على استخدام الدّول الصّغيرة كأداة لتحقيق أغراضها، وفعلاً لم تقم حركة تحرريّة بعد باندونغ إلا وساندتها مصر كثورة الأردن، ثورة الجزائر، ثورة قبرص،ثم الاعتراف بالصّين الشّعبيّة
وكانت الخطوة المقبلة التي اتخذها عبد النّاصر ورداً على عدوانيّة الغرب التي نّفذتها اسرائيل في غزّة، كذلك رداً على رفض الغرب تزويد مصر بالسّلاح في حين كانت فيه الأسلحة تتدفق على اسرائيل، اعلان عبد النّاصر في أيلول 1955 عن صفقة السّلاح مع تشيكوسلوفاكيا التي كانت ضربة جديدة للقيود التي تربط مصر بعجلة الاستعمار.
(يتبع)