عبد النّاصر، بطل واجه القضايا حتّى النهاية (2) – اسكندر عمل
- by منصة الراي
- January 10, 2018
- 0
- 3979  Views
- 0 Shares

عملة مصرية لذكرى الجلاء المجيدة
*تّهديدات الولايات المتّحدة المعلنة لعبد النّاصر ومحاولات تصفيته جسديّاً هي شهادات شرف لعبد النّاصر
*تأميم قناة السّويس كان صفعة أفقدت الغرب الامبريالي اتّزانه
*الاتحاد السّوفييتي لجأ إلى إعلان إنذاره التّاريخي بعد رفض الولايات المتّحدة تلبية دعوته للعمل سويّة من أجل نقض العدوان الثّلاثي*.
جاءت صفقة الأسلحة بين مصر وتشيكوسلوفاكيا دليلاً على صدق السّياسة السّوفييتيّة، فهي لم تتأخر عن عقد صفقة خطيرة كهذه، دون أيّة قيود عسكريّة أو اقتصاديّة ودون أدنى تدخّل في شؤون مصر.
حاولت الولايات المتّحدة ترهيب مصر لإلغاء الصّفقة عن طريق إرسال مبعوثين برفقة السّفير الأمريكي في مصر، الّذين حاولوا تخويف الحكومة المصريّة من مصير مشابه لمصير الحكومة التّقدّميّة في غواتيمالا الّتي نجحت المؤامرات الأمريكيّة في القضاء عليها. إلا أن عبد النّاصر رفض هذا التّرهيب العدواني.
فشلت الولايات المتحدة في إخضاع مصر وإذلالها، وأدرك رئيسها دالاس أنه أمام خصم مستعدّ للمقاومة وقادر عليها، فترك التّهديد إلى الإغراء وفي نفس الوقت حاول التّشكيك بالاتّحاد السّوفييتي بقوله :”ليكن… إن الاتّحاد السّوفييتي يصدّر لكم أدوات الموت.. أما نحن فسوف نصدّر لكم أدوات الحياة، وهكذا فقد قررنا مساعدتكم في مشروع بناء السّدّ العالي الّذي تتحدّثون عنه وتحلمون ببنائه. “ثمّ أبدى تخوّفه من أنّ تدفق السّلاح على مصر سيستنفد مواردها ولا يبقى منها شيء للسّدّ العالي. لذلك طلب من مصر وقف شراء السلاح، ثمّ طلب وقف المقاومة ضد حلف بغداد. ( محمد حسنين هيكل، لمصر.. لا لعبد النّاصر).
ولكي يستمر في محاولة إغراء مصر للسّير في فلك الولايات المتحدة ، حاول دالاس أن يظهر موقف الحياد في النّزاع العربي الإسرائيلي بإعلانه أنّ الولايات المتّحدة لا تنوي تزويد إسرائيل بالسّلاح، لكنه أضاف أنّ الولايات المتّحدة لا تعارض في أن تقوم بذلك أقطار أخرى، وقد فسّرت صحيفة نيويورك تايمز (56. 4. 4 ) ذلك بأنه تشجيع لفرنسا وبريطانيا على تلبية حاجات إسرائيل من السلاح.
رفضت مصر أيّ شروط تقيّد استقلالها السّياسي أو الاقتصادي نظير تمويل بناء السّدّ العالي، وهنا قررت الولايات المتّحدة في النّصف الثّاني من العام 1956 سحب اقتراحها بتمويل بناء السّد (56. 7. 19 ) والانتقال إلى أسلوب التّهديد والإمساك بالعصا بدل الجزرة وأعرب دالاس عن ذلك في اجتماع مجلس الأمن القومي بقوله :”إنني أكره عبد النّاصر، ولا أظنه سيكون صديقاً لنا في يوم من الأيام ويجب ألا نسمح له بأن يفلت منّا بما أخذ، وأنّنا لا بدّ من أن نقص جناحيه ونبقيه كذلك إلى أن نتخلّص منه إلى الأبدّ”. (هيكل، نحن وأمريكا).
لم يكن إصدار وتوقيت بيان دالاس وتحريضه على حكومة مصر الثّورة صدفة، فقد صدر في وقت كان فيه جمال عبد النّاصر وتيتو ونهرو مجتمعين في بريوني لتنسيق نشاط دول عدم الانحياز، والتي كانت تهدف إلى تقليص مؤامرات الدّول الامبرياليّة ضد الدّول المستقلّة حديثاً. وقد صرّح دالاس أنّ هذا البيان صدر في هذا التّوقيت “كي نضرب رأس جمال عبد النّاصر بهذا الحجر ونكسره حتى يفيق ويفيق معه نهرو وتيتو.” (د. إميل توما، السّياسة الأمريكية في الشرق الأوسط).
وكتبت التّايمز اللندنيّة أنّ متحدّثاً أمريكيّاً باسم وزارة الخارجيّة أبلغ الصّحفيين “لا مصر وحدها بل دول أخرى يجب أن تتعلّم أن لا تبتز (كذا) تنازلات من الولايات المتّحدة ومن الواجب صفع عبد النّاصر لانتهاجه سياسة الحياد.” (56. 7. 21 )
رأت الولايات المتّحدة ودول الغرب في ضرب ثورة يوليو في مصر والقضاء على عبد النّاصر أمراً مهماً لتهديد الشعوب والدول التي تحاول التّمرد على الاستعمار والامبرياليّة الأمريكية، خاصّة أن الأمور في هذه الفترة في هذه المنطقة بدأت تفلت من سيطرة الاستعمار الغربي وتتمرد على محاولات الولايات المتّحدة ضم دول عربيّة إلى أحلافها ومشاريعها الاستعماريّة كحلف بغداد ومشروع أيزنهاور لاحقاً. فقد كانت الثّورة الجزائريّة قد زادت اشتعالاً بعد سنتين من اشتعالها وزاد دعم الشّعوب العربيّة ومصر الثّورة وقوى التّقدم في العالم لها، واستقلت ليبيا وتونس والمغرب والسّودان، أما سوريا فقد وطّدت حكومتها القوميّة المعاديّة للامبرياليّة رافضة الدّخول في حلف بغداد، واستقبلت في حزيران 1956 السّفير السّوفييتي واعترفت بالصّين الشّعبيّة الّتي بذلت الولايات المتّحدة كل مجهود لعزلها دوليّاً ومحاصرتها حتى خنقها إن أمكن.
كان رد عبد النّاصر على” العصا” الأمريكيّة سريعاً حاسماً، تأميم قناة السّويس، في 26 تموز (يوليو) 1956 وأعلن أن دخل القناة سيموّل بناء السّد. لقد كان تأميم شركة القناة ضربة كبرى للرأسمال الاحتكاري الأجنبي إذ حرمه من أرباح صافية لا تقل عن 16 مليون جنيه كل عام. كان التّأميم تقويضاً لقلعة استعماريّة ومركز استراتيجي هام للاستعمار العالمي، كذلك كان أعنف ضربة لحلف بغداد، إذ أنّ إفلات قناة السّويس من القبضة الاستعماريّة يشكّل تشجيعاً للتخلّص من القبضة الاحتكاريّة على البترول العربي.
لم يكن ذكر اسم” دليسبس” أثناء خطاب عبد النّاصر مجرد صفارة لبدء عملية استعادة حق الشّعب المصري الّذي سلب منه عنوة قبل تسعين سنة بل كان أصدق صفعة وجهها لوجه من شكّل ّدولة داخل دولة واستغل خيرات مصر، في الوقت الّذي كان فيه المصريّون أصحاب الحق يموتون جوعاً. “مضت أربع سنوات على هرب فاروق من مصر، وها أنا اليوم أستعيد القناة باسم الشّعب، هذا المساء تصبح القناة لنا، مصريّة، ومصريّون يديرونها”قالها جمال عبد النّاصر بثقة وضحكه يجلجل وعاصفة من التّصفيق والهتافات ترتفع. جن جنون حكومتي لندن وباريس وبدأت تفوّهات إيدن وموليه الهستيريّة “هتلر الجديد”، “اللص الوقح”، “دكتاتور في ضائقة”، “سيضطر بعد حين أن يعيد ما سرق. “وهنا يصدق فيهم قول الشّاعر :
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص
فهي الشّهادة لي بأني كامل
من جهة أخرى هزّت موجة التّضامن العربي والّتي تجسّدت في مظاهرات اجتاحت العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، المواقع الامبرياليّة في المنطقة.
بدأت الدّول الاستعماريّة استعداداتها العسكريّة فوراً، وصرّحت صحيفة دّيلي ميل في 30 يوليو أنّ ممثلي الغرب يجهّزون الخطط العسكريّة لمواجهة الموقف، وبدأ التّفكير في استخدام إسرائيل وبدأت الأسلحة بالتّدفق إليها. في نفس الوقت بدأت الدّول الامبرياليّة الثّلاث بريطانيا وفرنسا و الولايات المتّحدة نشاطاً دبلوماسيّاً واسع النّطاق للضغط على مصر للتراجع عن خطوتها. وفي هذا السّياق انعقد مؤتمر لندن في17 آب 1956 باشتراك 18 دولة وتغيّبت مصر وقد قرر المؤتمر بأكثريّة الأصوات تدويل قناة السّويس وأوفد المؤتمر وفداً لإقناع الحكومة المصريّة بقبول القرار. والمهزلة في هذا المؤتمر أنّ دالاس وصف رغبة مصر في السّيادة على أراضيها بأنها أطماع قوميّة!! أمّا الموقف السّوفيتي فقد عبّر عنه وزير الخارجيّة شبيلوف منتقداً اقتراح الدّول الغربيّة التي اقترحت إقامة” سلطة دوليّة” التي لها حق التّصرف في الأرباح التي تجنيها من استثمار القناة، وأضاف أن هذا الاقتراح لم يأخذ بالحسبان احتياجات مصر القوميّة المشروعة وهو ينطوي على نزع ملكيّة مصر الفعليّة على أراضيها. لكن الدّول الاستعماريّة أقامت منظمة لتنفيذ مشاريعها، إلا أنّ الفيتو السّوفييتي أفشل هذه المحاولة. إن هذا الفشل جعل الدّول الاستعمارية تسرع في وتيرة استعداداتها العسكرية لتحقيق أغراضها.
من جهتها قدّرت المحافل الإسرائيلية الحاكمة أنّ هزيمة مصر عسكريّاً يؤدي إلى سقوط نظامها الوطني وحسبت أنّ ضربة تصيب الحركة القوميّة العربيّة ستثبّت ضياع حق الشّعب العربي الفلسطيني. أمّا الولايات المتّحدة فقد كانت على علم بالاستعدادات البريطانيّة_الفرنسيّة _الإسرائيلية ولم تعارضها أو تتخذ خطوات لوقفها، ولم تدخل هي هذه المغامرة العسكريّة لأن حيازة الاتّحاد السّوفييتي للسّلاح النّووي أبطلت القدرة الأمريكيّة على إنزال ضربة مضادّة. (اميل توما، نفس المصدر).
خططت الدّول الثّلاث المعتدية خطّتها في مدينة سيفر الفرنسيّة وكانت تفاصيلها أن تبدأ إسرائيل الهجوم وأن تكتسح سيناء وان تصل إلى القناة وأن تحتلّها، وحينئذ تتدخل بريطانيا وفرنسا وتطلبان إلى كل من إسرائيل ومصر أن تنسحبا إلى مسافة كافية على الضّفتين، وتوضع القناة تحت إدارة دوليّة حتى يفصل نهائياً في مصيرها. وهذه عمليّاً كانت مسرحيّة محكمة الصّنع لاستعادة القناة وإسقاط حكومة ثورة يوليو ووضع خريطة جديدة للمنطقة. لكنّ الخطّة فشلت لسبب واحد هو أنّ إسرائيل لم تستطع أن تكتسح سيناء وأن تصل إلى ضفّة القناة، وهذا الفشل كان بسبب واحد هو المقاومة الضّارية للضّباط والجنود المصريين، وقد اعترف ديّان بأنّ المصريين حاربوا بطريقة مختلفة وأنّ نوعية الضّابط والجندي المصري قد تغيّرت. اضطرت فرنسا وبريطانيا إلى تقديم موعد الإنذار المشترك والى إنزال القوّات المشتركة في بور سعيد وبور فؤاد ووجهتها تحقيق المهمة التي فشلت إسرائيل في انجازها وهي احتلال القناة.
كانت هذه الحرب غير متكافئة وكانت ثقة المعتدين كاملة بأنّ الغزو سينجح، وفي الواقع لم يكن أحد ليتوقّع أن تنتصر مصر انتصاراً عسكريّاً حاسماً على الدّول المعتديّة ولكن أحداً لم يتوقع أيضاً أن تستطيع مصر أن تقود المعركة على الجبهات العسكريّة والسّياسيّة والدبلوماسيّة بقدرة فائقة وأن تصل إلى الهدف الّذي وضعته، واستطاعت القيادة أن تعبئ الشّعب كلّه للمقاومة حتى النّهاية وأن تستثير الجماهير العربيّة في كلّ مكان. (محمد عودة، الوعي المفقود).
مكّن صمود الجيش والشعب المصري قوى الاشتراكيّة والتّحرر أن تمارس ضغوطها وتجمّد العدوان أوّلاً وتقضي على ذيوله لاحقاً، وخلال أيّام نجحت طليعة قوى الاشتراكيّة والتّحرر والاتّحاد السّوفييتي، تساندها دول المجموعة الاشتراكيّة والدّول القوميّة الجديدة في انجاز قرارات في الأمم المتّحدة تندد بالعدوان وتدعو إلى وقفه، وحين تبيّن أنّ هذه القرارات لم تعد الدّول المعتدية إلى صوابها أصدر الاتّحاد السّوفييتي إنذاره التّاريخي فكان هذا عاملاً حاسماً في إحباط العدوان. لقد جاء الإنذار في صورة أربع مذكّرات، واحدة لرئيس مجلس الأمن وأخرى لأنتوني إيدن وثالثة لجي موليه رئيس وزراء فرنسا ورابعة لبن غوريون . ومما ورد في هذا الإنذار “الحقيقة هي أنّ حرباً عدوانيّة تشنّ ضدّ الدّول العربيّة… ماذا يكون موقف المملكة المتّحدة (بريطانيا) إذا هاجمتها دول أقوى لديها كافة الأسلحة الحديثة المدمرة… وإذا حدث هذا واستعملت الأسلحة الصّاروخيّة ضد المملكة المتّحدة أو فرنسا، فإنكم بلا شك ستصفون هذا بأنّه أعمال وحشيّة… يجب على الحكومة البريطانيّة أن تصغي لصوت العقل… فنحن مصممون تصميماً تاماً على سحق المعتدين بالقوّة وأن نعيد السّلام إلى الشّرق”، وجاء في الإنذار السّوفييتي لإسرائيل “إن الحكومة الإسرائيلية بتنفيذها لإرادة غيرها تلعب بإجرام بمصير السّلام وبمصير شعبها… ما سيكون له أثره على مستقبل إسرائيل، وما يعرّض للهلاك وجود إسرائيل نفسها كدولة… ونحن نأمل أن تفهم حكومة إسرائيل هذا الإنذار فهماً سليماً وأن تعيه”. (شهدي عطيّة الشّافعي، تطوّر الحركة الوطنيّة في مصر).
هبت معظم دول عدم الانحياز شعوباً وحكومات، تؤيد مصر بالمظاهرات وبالمتطوّعين، فقد أعلن ماوتسي تونغ أنّ بلاده مستعدّة لإرسال مئات الآلاف من المتطوّعين إلى مصر إذا طلب الرّئيس جمال عبد النّاصر ذلك. وقدّمت الحكومة الصّينيّة هديّة نقديّة لمصر قيمتها 20 مليون فرنك سويسري للمساهمة في كفاحها الباسل ضدّ العدوان الأجنبي. وقاطعت اندونيسيا السّفن البريطانيّة والفرنسيّة، وأحرقت الجماهير في جاكرتا دار السّفارة البريطانيّة ورجمت السّفارة الفرنسيّة بالحجارة. وقامت مظاهرات التأييد في أفغانستان والهند والباكستان وسيلان.
أما العالم العربي فاشتعل تضامناً مع الشّقيقة مصر، فقد أعلنت سوريا التّعبئة العامّة، ووضعت قوّاتها العسكريّة تحت تصرّف مصر، وقطعت علاقاتها الدّبلوماسيّة مع بريطانيا وفرنسا. وأبلغت الأردن بريطانيا أنّها لن تسمح لها باستخدام المطارات والقواعد العسكريّة ضدّ مصر، وقطعت علاقاتها الدّبلوماسيّة مع فرنسا. وأعلن الشّعب السّوداني سخطه على العدوان، وأصدرت الحكومة السّودانيّة أمراً بمنع جميع الطّائرات الحربيّة البريطانيّة والفرنسيّة من الهبوط بمطارات السّودان. واندلعت المظاهرات في بنغازي، وسحب أهالي الكويت أموالهم من بنوك بريطانيا، وفي العراق هبّ الشّعب العراقي ضدّ نوري السّعيد وطالب بالانسحاب من حلف بغداد، وقد استشهد المئات من العراقيين أثناء المظاهرات الصّاخبة.
(يتبع)