الجزء الثاني من ما بعد السفر برلك – د. خالد تركي حيفا

لقد كان أخوهما الصَّغير، أيَّام السَّفر برلك، يقوم بمهمَّة صعبة وخطِرة، مجازفًا بروحه وخائفًا على روح أهله، “إن علِق في شِباك آل عثمان راحت عليه وعليهم”، حين كان يحمل الزَّاد والطَّعام والخبز، ليلاً، للفراريِّ أخيه واصحابه في الجبال، ويحمل لهم حاجيَّاتهم من ماءٍ وكساءٍ وغذاءٍ وانباء عن البلدة، وينقل لهم أخبار اهلهم، وينقل للأهالي أخبار ابنائهم ويُطمئنهم عن فلذات أكبادهم، كان ينجو من كلِّ كمينٍ ينصبونه، “ويطلع منها” مثلما “تطلع الشَّعرة من العجينة” وكانت “تِسلم الجرَّة كلَّ مرَّة”، حيث لا يعرف قاموسه اليوميُّ معنى الخوف والوجل والتَّردُّد، كان يُردِّد دائمًا “انا بحماية ربِّ العالمين”، فرتيك ابن حلال مصفَّى..
لقد وجدوا في أخيهم الصَّغير نواة تنقُّلهم وعملهم ومرصادهم، مثل “الزُّنبرك”!
كيف لا وقد مُنح اسم مار جريس، وليد مدينة اللدِّ، ليكون شفيعه، فهو الذي قاتل التَّنِّين واجهز عليه وهو على صهوة جواده، فصرعه وسحقه بعد ان ضربة في مقتَله، في اصابة مباشِرة ودقيقة وصائبة بين عينيه، وخلَّص المنطقة من شراسة وظلم هذا التَّنِّين، وبهذا يكون القدِّيس جريس قد آتى خلاص النَّاس وانتصر على الظُّلم!
كيف يُمكن للأمِّيِّ الذي كان قرونًا اربعةً تحت نير آل عثمان أن يواجه الإفرنجيَّ، الذي أتى بلادَه محتلاً، بعُدَّته وعتاده وعديده، بعلمه وثقافته وتطوُّره، كيف يمكنه ان يُجابِهَ حاكم الكون، ملك الأرض التي لا تغيب عنها الشَّمس، وكيف يُمكن للكفِّ أن يُلاطم المخرز، فهو لا يستطيع احد ان يغطِّي الشَّمس بالغربال..
بعد أن سمع عن البلاشفة، وبطولاتهم وانتصاراتهم في بلاد المسكوب، في دحر القيصر وزمرته الطَّاغية، أيقن أنَّه بلى يمكنه أن يعمل “ما لم تستطعه الأوائل” ﴿وقُل إعْملوا..﴾ فمن يُحارب الظَّالم بوحدة وكفاءة ورباطة جأش وتضحية، إنَّما يستمسكُ ﴿..بالعُرْوَة الوُثقى..﴾، إذًا بالتَّأكيد يمكن للكفِّ أن يُلاطم المخرز، فكيف إذًا استطاع كفُّ البلاشفة أن يُلاطم تلك الآلة الحديديَّة الحادَّة، دون أن تخرِّز يده وتثقب لحمه وتشرب من دمه، لا بل استطاعوا ليَّهُ و”طعجَهُ”، فلوى الكفُّ المخرز بشكل لولبيٍّ ووضعَه في اصبعه الوسطى، خاتمًا شاهِدًا على خاتمة طغاة هذا الكون في بلدهم، واصبحت سدَّة الحكم في ايدي مجالس العمَّال والفلاحين، والمثقَّفين الثَّوريِّين، فوحدة الشَّعب بكلِّ فئاته تقوى على حلِّ كلِّ المشاكل، والانتصار على القلاقل التي تُحاك ضدَّها!
اقتنعَ أنَّ مجالس العمَّال والفلاحين هناك، من جميع القوميَّات والدِّيانات، يبنون وطنًا واحدًا مشتركًا، بنجاح، لجميع شعوب تلك المنطقة على اختلاف انتمائهم الاثنيِّة أو القوميِّة، الدِّينيِّة أو المذهبيِّة، يجتمعون تحت قُبَّة سماء واحدة، ويلتحفون بغطاء وراية واحدة، حمراء، لون دم الإنسان، إنَّ طريقة الحُمر، هي الحلُّ الوحيدُ لحلِّ المسألة القوميَّة وتداعياتها، حين تكون عائقًا على بناء الدَّولة..
فهل يُمكنهم، هنا، أن يجمعوا جميع سُكَّان هذا الوطن داخل حدود واحدة، بجميع قوميَّاته، وتعدادها، ويعيدونه إلى حدوده الطَّبيعيَّة، إلى حضن الأمِّ الشَّاميَّة، منطقة الهلال الخصيب؟ نعم! يستطيعون إنجاز هذه المعجزة، فما زال في السِّراج كثيرٌ من الزَّيت، يكفي لإضاءة شعلة الكفاح الشَّعبيِّ وشحن استمراريَّة النِّضال الجماهيريِّ، فهي أرض الخير والبركة والكنوز!
كيف سيواجه هذا الذي يتنقَّل من مكان لآخر، ومن بلدة لأخرى، على ظهر الدَّواب ذلك الذي يتنقَّل بمركبة سيَّارةٍ، كيف سيواجه الشَّاعوبُ والمِذراةُ والقَدُّومُ والشِّبريَّةُ والمديةُ والشُّقشاقةُ رصاصَهم وتقنيَّتَهم، كيف يواجِهَ هذا “القارئَ والكاتبَ الذي يعرف على السَّاعة” وهم، بغالبيَّة شعبه، لا يعرفون “فكَّ” الحرف ولا “الألف من العصاة”، ولا الخمسة من الطَّمسي”، ولا يهتمُّون للتَّوقت، فالمواعيد “عند غياب الشَّمس” أو عند “بزوغ الفجر” او “عند أذان المغرب” أو عند ضبِّ الرَّمس..!
يُحكَى عن خوري بلدةٍ في جليل فلسطين، كان يضع بضعة حباتٍ من الفول في جيبه، بعدد الأيام الآتية للعيد المقبل، حيث كان يرمي كلَّ يوم حبَّة من الفول، وحين كان يُسأل عن حلول العيد، كان ينظر الى السَّماء العالية، متضرعًا الى السَّميع العليم، ليُعينه على الصِّدقِ، بان يأتي العيد وخيراته وبركاته لهذا الشَّعب المسكين، ويده في جيبه تعِدُّ الحبَّات، ويجيب “بحسب حساباتي بقي للعيد بضعة ايام، أظنُّها، ويقول العدد، بعد أن يكون قد عدَّها” ويصدق في قوله، ممَّا يزيد من ثقة أهل الرعيَّة “بأبونا”، وحدث ذات مرة، أنَّ الخوريَّة، زوجة “ابونا” قد غسلت ثيابه ووجدت في جيب سرواله حبات من الفول، فما كان منها إلا رمت هذه الحبَّات ووضعت حبَّات أخرى كثيرة العدد غير العدد الذي كان، بقدر ما تسمح لها كفُّها ان تكمش، لتضعها في جيب الخوري، ظانَّةً أنَّ هذا فأل خيرٍ يؤمن به “أبونا”، وحين سُئل “ابونا” عن العيد وضع يده في جيبه ليحصي عدد حبَّات الفول، فوجدها كثيرة، لا تُحصى، فلعن المكيدة التي نُصِبت له وفاعلها، قائلاً: حسب حساباتي هاي السنة مش رايحين نعيِّد!”، وحين عاد الى بيته حدَّث الخوريَّة بالمكيدة التي نُصِبت له، فرسم قوله ابتسامتها على محيَّاها، راسمة شارة الصَّليب على صدرها، باسم الآب والإبن والرُّوح القدس، معتذرة له وآسفة لسواد الوجه الذي تسبَّبته لراعي القوم الجليل ووجه البلد..
لقد جاء في الحديث: “كما تكونوا يولَّى عليكم” فكيف يجوز ان يتدبَّروا ويُدبِّروا امور البلدة وهم “من شكلو شكشكلو”، وكيف عليه ان يتدبَّر الأمر ليكونوا غير ما هم عليه ليولَّى عليهم من هو أفضل وأنجع واجدر ليُدير امورهم ويدبِّر حالهم..
لقد عرفوا وايقنوا الحلَّ..
بدأوا في بناء خلايا حمراء، في جميع أماكن تواجدهم، وساهموا في بناء مشروع محو الأميَّة، اسوة بباقي الرِّفاق الذين وجدوا الحلَّ كما وجدوه هم داخل “الوطن” الجديد وعلى مستوى جميع الأقاليم، من شمالها إلى جنوبها امتدادًا إلى الوطن الكبير..
لقد كان سمعان قلقًا على ما ستؤول إليه الهجرة اليهوديَّة إلى فلسطين، من جميع أصقاع العالم، حيث كان يقول إنَّها ستحوِّل اليهود، القادمين في جهات العالم الأربع إلى فلسطين، إلى أغلبيَّة وعندها سيطردون العرب من بلادهم، موطنهم، وهو بسليقته وطبيعته “بفهمها ع الطَّاير”، لكنَّه لم يعرف ولم يفهم لماذا عليه وعلى ابناء شعبه دفع ثمن أخطاء النَّازيِّين وإثمهم فيما ارتكبوه بحقِّ البشريَّة والإنسانيَّة من جرائم وآثام وتطهير عرقيٍّ، يقول أن لا مانع من أن يأتوا بلادنا ويحتموا بنا ويأووا في بيوتنا إلى أن تمرَّ الغيمة السَّوداء عن تلك الأراضي عبر البحار في غرب بلادنا، ومن بعدها يرجعون إلى مسقط رأسهم، ليعيشوا كما كانوا هناك وكما يحلو لهم أن يعيشوا وأن يكونوا كما يشاؤون في بلادهم، “وتقيموا أينما شئتم”، وكلُّ انسان مسؤول عن خطئه وعليه ان يتحمَّل ابعاد اخطائه، ولماذا علينا ان نتحمَّل، نحن اهل هذه البلاد، نتائج اثم لم يرتكبه شعبنا، أو أيُّ فردٍ منه، لماذا على شعبنا أن يحملَ حِمْلَ غيره، ولماذا عليه ان يدفع ثمن ذنوب الآخرين، ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾، وكلُّ نفس تُحاسب على عملها، وكلٌّ يؤاخَذ على فِعلتِه أو على خطيئته، فشعبنا بريء الذِّمَّة من دمهم..
“لقد كنَّا في جيرة حسنة مع اخواننا اليهود أولاد العرب، معًا في السَّيف والضَّيف، وفي الهدَّة والصَّدةِ، نتجاور ونتحاور ونتسامر ونتنادم وندافع عن بعضنا البعض ونحمي بعضنا الآخر، نغنِّي وننشد سويَّةً، وكان لنا اخوة في الرِّضاعة، يعني في عيش وملح بيناتنا، حيث ارضعت والدتي صبري، من بيت صدقة، بعد ان جفَّ الحليب في ثديي أمِّه، سارة، بعد وفاة زوجها، نسيم، الذي سقط من على سلَّم السِّقالة، حين كان يعمل في شركة النَّفط العراقيَّة آي. بي. سي. والتي كانت تضخُّ النَّفط من العراق إلى ميناء حيفا، حيث كان يعمل عندهم في فرع البناء”..
الأخوَّة بالرِّضاعة مهمَّة جدًّا ولها قواعدها الشَّرعيَّة ومكانة اعتزاز باخوَّة الرِّضاعة، هذا أخي بالرِّضاعة مفاخرًا، إن كان ذا سيرة حسنة وطيِّبة، وهذه أختي بالرِّضاعة إن كانت كريمة الأخلاق وعزيزة النَّفس، ولا يجوز زواج الشَّاب من فتاة رضِعت من ثدي أمِّه او انَّه رضِع من ثدي امِّها، فهذا لا يجوز شرعًا، حتَّى لو كان ابن عمِّها او كانت ابنة عمِّه ويُحكى عن أمٍّ كانت تُرضِع ابن شقيق زوجها (سلفتها)، لأمرٍ مبيَّتٍ في صدرها، حتَّى لا يتزوَّج من ابنة عمِّه، ابنتها، حين يبلُغ سنَّ الرُّشد، لأنَّه بالرِّضاعة تكون ابنة عمِّه مُحرَّمةً عليه، بعد أن كانت سُنَّة ابن العم أن يُنزل ابنة عمِّه عن الفرس يوم زفافها إن شاء أن تكون له عروسًا، لكن هذا الحليب الذي رضِعه في طفولته، يُحرِّمها عليه..
إلى أن جاء أولاد الحرام من آل صهيون إلى أرضنا من بلاد الفِرنجة، موطنِهم ومسقطِ رأسهم، وزَرَعوا بين أبناء الشَّعب الواحد، في وطنه، الحقدَ والكراهية والضَّغينة والبُغض والعنف، اذ كانوا يوظِّفون العامل اليهودي في ايِّ وظيفة شاغرة وبمعاش عالٍ دون النَّظر الى من هو احقُّ في الوظيفة الشَّاغرة، من مهنيَّة واقدميَّة في العمل، أي كانت تسرق العمل من العمَّال العرب وتمنحه لليهود، وكان العامل العربيُّ يتقاضى معاشًا اقلَّ من معاش اليهوديِّ زميله في العمل وفي الشَّركة نفسها، زد على ذلك أنَّ ساعات العمل للعامل اليهوديِّ ثمانٍ بينما ساعات عمل العامل العربيِّ تتراوح ما بين العشر والإثني عشر ساعة، لقد سيطرت الحركة الصَّهيونيَّة على جميع مرافئ الحياة، الاقتصاديَّة والثَّقافيَّة والتِّجاريَّة والصِّناعيَّة والزِّراعيَّة، وامسكوا بأعنَّة مشارب البلاد ومواردها، وحازوا على مساحات كبيرة، لا يُستهان بها من الأرض، الأمر الذي اعطاهم قوَّة التَّحكُّم في جميع قطاعات العمل! حيث اتَّبعوا سياسة “فرِّق تسُد” بين العمَّال، العرب واليهود، وحاربوا اليهود الذين يقفون الى جانب حقوق العمَّال العرب، ووجدوا دعمًا لا يُستهان به على جميع الأصعدة من الإنجليز ومن باقي دول الاستعمار ومن ابناء جلدتنا ايضًا في الوطن الصَّغير وفي ارض الحجاز وفي شرقيِّ الآردن، وشتَّان هنا بين من يترك وطنَه وبين الذي يتمسَّك في وطنه، فصاحب الأرض يُحبُّها ويُفديها بأعزِّ ما يملك، فهو آدم من الأديم، مخلوق من هذه الأرض، بينما الآتي من وراء البحار، الغريب، يترك مسكنه إن مال الميزان عليه يومًا أو يتركها طمعًا بأرض غيره، فالظَّالم لا دين لأنَّ الظُّلم هو دينه..
في ناس زي الشَّجر\ فيهم زهر حنون\ واحد بيعطي ثمر\ وواحد ظلال وغصون يسقط ورق ويطير مع ريح في كانون\ لكن شهيد البلد\ بيظل حتَّى الأبد\ فوق الجبل زيتون..
فالشَّام هي الفاتحة والخاتمة، هي البدء والمنتهى، هي المقدِّمة والمؤخِّرة، هي الدُّنيا وهي أمُّ الدُّنيا، هي أمُّنا المجازيَّة والحقيقيَّة، فهل نخونها! ما عشنا لنخونَها، وما حيَينا لنغدُرَها، وما بقينا لنخدَعها، بل عشنا لنُخلِصَ لها، وحيَينا لنوفي وعدَنا لها، وبقينا لنُهديها أعزَّ ما نملك ونبُرَّها..
عندما كان سمعان يسكن وعائلته في شارع ياقوت الحموي، في المدينة، سمع ضجيجًا وصراخًا في الشَّارع،فراحَ يتبيَّن سبب هذا الصُراخ وإذ بشابٍّ يافعٍ قويِّ الجسم، مفتول العضلات، يبطح شرطيًّا من الشُّرطة البريطانيَّة ارضًا، بزيِّه الرَّسميِّ، وَقَدْ أَبْلَى البَلاءَ الحَسَنَ، وواجهه ببسالةٍ وعزيمةٍ، وملأ جسده بلكماتٍ بقبضات زنده، وذلك لأنَّه اعتدى على ثُلَّة من فتيان الحارة الصِّغار، كانوا يلعبون في حوش دارهم، ايقظوه من قيلولته، حيث وجد بها مناسبة جيِّدة للإنتقام من الإنجليز، وحين أراد معرفة، “من هو هذا الشُّجاع” تبيَّن له انَّه ابن الحارة ويسكن شارع ما يرحنَّا، واسمه نجيب اسبيريدون..
سأله ابنه داود عن هذا الشَّاب فأجابه: “بلشفيك ابن حرام” تحبُّبًا واحترامًا لرباطة جأشه وشجاعته، فزاد احترامه للبلشفيك، الأمر الذي انعكس على ابنه داود كذلك، لاحقًا..
أمَّا نجيب اسبيريدون فهو: من مواليد حيفا، حيث كان يسكن في حيِّ وادي النِّسناس، شارع مار يوحنَّا المعمدان رقم واحد وعشرين، انضمَّ الى الحزب الشُّيوعي في العام الف وتسعمائة وخمسة وثلاثين، أرسله الحزب إلى المدرسة الحزبيَّة في موسكو للدِّراسة لمدَّة عامين، “لقد تمَّ ترتيب الرِّحلة والتَّغطية على هدف الرِّحلة من قبل الشُّيوعيِّين الاتراك، حيث قاموا بتزوير اوراق الهويَّة ومكان العمل في تركيَّا”، درس في بلاد المسكوب اللغة الرُّوسيَّة والماركسيَّة والسِّياسة الرُّوسيَّة والعلاقات الدُّوليَّة، وحين عاد الى الوطن اعتقلته السُّلطات البريطانيَّة، لكنَّ الأوراق الثُّبوتيَّة المزوَّرة ساعدته على اطلاق سراحه بعد حين (شيوعيُّون في فلسطين، شظايا تاريخ منسي، موسى البديري ص 168، مواطن، المؤسَّسة الفلسطينيَّة لدراسة الدِّيموقراطيَّة، رام الله – فلسطين 2013)، عمل في حيفا موظَّفًا في إدارة قسم الجمارك بحيفا، وكان مسؤولاً من قبل الحزب عن العمل بين المثقَّفين لمناهضة تفشِّي الآراء الفاشستيَّة..
لم يستطع سمعان ان يقف جانبًا دون تلبية نداء الواجب، وهو الذَّود عن حياض الوطن وحماية الارض والدِّفاع عن البيت، بل انتظم في صفوف الثُّوَّار في المدينة، والتحق من بعده أخوَاه ورفاقهم بكتائب أنصار، المسلَّحة التي قادها الرَّفيق فؤاد نصَّار، حين تعرَّفوا عليهم في إحدى المسيرات الاحتجاجيَّة المناهضة للاحتلال البريطانيِّ ووصايتها على فلسطين وضدَّ سماحه بهجرة يهود العالم إلى فلسطين، وقد توزَّعت هذه الكتائب إلى مجموعات صغيرة، قلَّ ما كان يعرف عضوُ الفصيل رفيقَه من الفصيل الآخر..
فؤاد نصَّار هو بلشفيٌّ أحمر، من ناصرة جليل فلسطين، وقائد فصيل لمقاومة الاحتلال في منطقة جبال الخليل كان قد عيَّنه مفتي الدِّيار في حينه الحاج امين الحسيني، خلفًا للقائد عبد القادر الحسيني، بعد أن اصيب في المعركة، بجراح صعبة وبالغة في إحدى معارك الشَّرف والبطولة (حيث اقام في مشافي دمشق الى ان تماثل للشِّفاء)، عام الف وتسعمائة وثمانية وثلاثين، واعطى اهل المنطقة لفؤاد نصَّار كنية “ابو خالد”، حيث كان عِزوتهم وعزيزهم بعد ان حماهم من تطاولات وابتزاز القوى الرَّجعيَّة والانتهازيَّة في تلك الفترة، وكانت صلته بالجماهير وثيقة جدًّا لمحبَّته لهم وتفانيه من اجلهم في الدِّفاع عنهم..
وقد رآه سمعان مرَّة في مدينة يافا، عروس فلسطين الثَّقافيَّة، في اجتماع حاشد، ليقول كلمته الشُّجاعة ضدَّ نهج مفتي الدِّيار الحاج امين الحسيني، الذي لم يألُ جهدًا في التَّحريض على العمل النِّقابي ودور الطَّبقة العاملة في نضالها ضدَّ الاستعمار، فوقف الرَّفيق ابو خالد يُثني على درب المقاوِم عبد القادر الحسيني ونجاعتها، وقد كشف عن التَّآمر الدَّنس للرَّجعيَّة العربيَّة ودول المحور والصَّهيونيَّة، وحين تطاول بعض الدَّسَّاسين، على “..الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه..” وتعرفه أحراش النَّاصرة وجبل النَّار ومناطق الخليل، لقد حاول ان يتجاهل تاريخ هذا الرَّجل الشَّريف، فانتزع من على المنصَّة قميصه، ليكشِفَ عن صدره المنتصب والعاري، شهادات بطولاته، عن النُّدب الجلديَّة، جرَّاء اصابته، مرَّات عديدة، برصاص الجنود الانجليز وعصابات صهيون وهو يناضل في أحراش الخليل ضدَّ المستعمر الغاصب، لقد كشف عن صدره حين زاود المتطاولون في خطابهم على وطنيَّته في ذلك الاجتماع الشَّعبيِّ في مدينة يافا، وحين كشف عن صدره كشف عن عورتهم!
تعرَّى وعرَّى عوراتهم!
أُعجب سمعان بأبي خالد، وتأكَّد منه أنَّ هذا هو الطَّريق القويم في اتَّجاه تحقيق آماله امنياته..
لقد ساهمت هذه الفصائل في محاربة جنود الاستعمار البريطانيِّ وتنظميات صهيون في فلسطين، وابلت بلاءً حسنًا ومباركًا في معاركها ضدَّ الانجليز وعملائه، ووجدت بيوتًا عديدةً دافئةً تحميهم وقت الشِّدَّة والملاحقات، البيوت الحاضنة للمقاومة هي سبب مهم في انتصارها..
لقد اصيب سمعان مرَّتين، الأولى في “في ثورة السِّتَّة وثلاثين” في فخذه برصاصة قرب مبنى البلديَّة من قنَّاص عاينه من على سطح عمارة البُخاريِّين، حين كان راجلاً لإحضار شيء ثمينٍ قد أخبأه في تلك المنطقة، لهدفٍ سامٍ حان وقته، والعِلم عند العليم، والثَّانية حين جُرِح جروحًا بالغة في انفجار عبوة ناسفة، في العام الف وستُّمائة وثمانية وثلاثين، انفجرت بقربه حين كان في سوق المدينة الرَّئيسيِّ، الواقع بين ساحة الجرينة، حيث جامع النَّصر او الجامع الكبير وبين ساحة الخمرة (الحناطير)، في عملية استكشاف واستطلاع موقع للعدوِّ وفي رصد حركاته ومعاينة زوَّاره لربط كمين لضابط انجليزيٍّ، كان عليه أن يمرَّ مع ضابطٍ آخر من كتيبة صهيونيَّة قرب موقع في السُّوق وأصبح ذا عاهةٍ!
لقد لازمته العاهة وأدَّت إلى عجزه عن سدِّ رمق العائلة وهو في عزِّ عطائه وقمَّة تفانيه وتضحياته، حيث قتل وهنُه كلَّ ما في داخله من طاقة وارادة وعمل، إلا الأمل بقي حيًّا فيه، لذلك زرع في ذُرِّيَّته روحَه، وحالت هذه الحالة دون استطاعته إعالة أهل بيته، وكان على لسانه دومًا الحديث الشَّريف: “اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ” وأن لا يقتله العوز والفقر لأنَّ الموت افضل منهما، الموت ولا المذلَّة، وأن لا يحتاج إلى مساعدة أحدٍ، وان لا يكون عالةً وعاهةً على أحدٍ، إلى ان انتقل الى رفيقه الحيِّ القيُّوم، عام الفٍ وتسعمائة وخمسة وأربعين في الثَّاني والعشرين من شهر آذار، حيث دُفِن في مقبرة المدينة، وتولَّت زوجته من بعده امور البيت، من عملٍ وكدٍّ وكدحٍ وتربيةٍ وتعليمٍ وتثقيفٍ وادارةٍ لشؤون المنزل، وترك ابنه البكر داود المدرسة الاسقفيَّة في المدينة، إلى ساحة العمل، فمن شابه أباه فما ظلم، هو من ظهر والده المنتصب وهو بضعةٌ منه ووالده ايضًا بضعة من ولده! لقد سأله ابنُه مرَّةً، يا والدي، الإنجليز مسيحيُّون ونحن كذلك، فمن هم الثُّوَّار؟ أجابه إنهم ملح الارض، عزيزو النُّفوس، أُباة الضَّيم، شجعان لا يهابون الرَّدى، يكافحون من اجل حرِّيَّة بلدنا وتحريره من المستعمر الذي اتى بلادنا ليمتصَّ خيراتها، ويستغِلَّ اهلها، ويقتلعهم من بيوتهم، ليأتي بالاجنبي الى بلادنا، الثُّوَّار هم منَّا والينا، هم من جلدتنا، يفدون الوطن بارواحهم ليعود بما يناضلون الينا بالخير، هم من دمنا ولحمنا، هم عرب، مسلمون ومسيحيُّون، يفدون الوطن بدمهم من أجل ان يحيا الشَّعب بكرامة وطمأنينة، الثَّورة قامت على اساس قوميٍّ لتحرير البلاد ولم تقم على اساسٍ دينيٍّ، والرَّابط القوميُّ أقوى من الرَّابط الدِّينيِّ!
لقد كان يكره الانجليز كما كان يكره الالمان، فكلاهما يستغلان الشَّعب ويحتلان اراضي الغير، وكان على قناعة ثابتة انَّ ايَّ احتلال نهايته الزَّوال، ويقول لقد وقف أهل هذه الارض العرب الاشاوس وقفة واحدة في لُحمة ثابتة ضدَّ الفِرنجة، الغزاة، ونصروا النَّاصر صلاح الدِّين، وانتصروا، وقاوموا سويَّة ًآل عثمان وبطشه وظلمه، بقدر ما أوتوا من قوَّة لدحره، واندحر، وحاربوا الاستعمار البريطانيِّ بوحدةٍ قوميَّة ووطنيَّة..
لقد وجد الاخوة الثَّلاثة ومن انتسب معهم لاحقًا من الذين جنَّدوهم، بالرِّفاق في بلاد المسكوب أسوةً حسنةً ومثالاً بارًّا وقدوةً صالحةً تضيئ درب الخلاص لشعبهم ولباقي شعوب المنطقة، حيث لازموا كتائب أنصار، وانضمُّوا بعدها إلى عُصبة التَّحرُّر الوطنيِّ في فلسطين، في صيف عام الف وتسعمائة وثلاثة واربعين، أو في صيف عام خمسة واربعين من القرن الماضي، ولاحقًا اصبحوا اعضاءً في مؤتمر العمَّال العرب، الذي اتَّخذ مقرَّه حيَّ وادي النِّسناس في حيفا، وقد دافع أعضاؤه عن العمَّال في كلِّ اماكن تواجدهم، في الورش الخاصَّة والعامَّة، في المصانع والمعامل، في المؤسَّسات والشَّركات، وفي كلِّ سلكٍ آخر، كذلك وجد العمَّال عنوانَهم الصَّحيح في نشطاء المؤتمر وأعضاء العُصبة، في مواجهة الأغنياء وأصحاب العقارات والمصانع، وحاربوا بكلِّ ما أوتوا من قوَّة وعزيمة ورباطة جأش وهدوء وسكينة وإباءٍ للحؤول دون ضياع الوطن، في وحدة قوميَّة ووطنيَّة وعمَّاليَّة وفي كفاح مشترك ومشروع، لبناء مشروع دولة واحدة ديمقراطيَّة وعلمانيَّة للشَّعبين، ضدَّ الرَّجعيَّة العربيَّة واليهوديَّة على حدٍّ سواء، لتحفظ فيها للشَّعبين المصالح السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والثَّقافيَّة والرُّوحيَّة..
لقد شارك الاخوة في العديد من المظاهرات الشَّعبيَّة العارمة، ضدَّ أعداء البلاد العاتين والآتين من وراء البحار استنكارًا واحتجاجًا على إعدام الشُّهداء الثَّلاثة فؤاد حجازي، محمَّد جمجوم وعطا الزِّير وتأييدًا للنِّضال من أجل عزَّة البلاد وأصالة العِباد وكرامة الخلق والذي تجلَّى في ثورة البُراق وثورة السِّتَّة والثَّلاثين والإضراب العام..

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*