بين ثنايا القصائد تقرير: نداء نصير

وقف هذا الفتى الشجي عذب الكلام حلو اللسان أمام حشد من الناس يقول على مسامعهم: وقد سأل الحاضرون بعضهم بعضًا، من يكون؟ ابن من؟ وما عمره؟

لم يكن قد تجاوز الخامسة عشر من عمره، حين وقف للمرة الاولى يخطب بالحشد ويلقي قصيدة نظمها هو بذاته:

“روحي يا روحي هالدهر خوّانْ

نسيتِ محبِّـتنا وماضينا

علَوْحْ صدري كاتِبلِكْ عنوانْ

ما بينمحى فيما لو نِسيتينا”

ويسألون من علّمَ هذا الفتى نظم الشعر والادب والكلام؟ فيقول: الارض شو بتزرعوا فيها بتطلِّع. هي امّي الاميّة التي كانت تنظم الشعر وتدفعني على ان أحذو حذوها”.

إنّ لحظة واحدة وعن غير ميعاد، يمكنها أن تهرس دماغًا وتغيّرَ مجرى الحياة ومجرى التاريخ. لقد كان وميضًا من شريط الذكريات، لنقُل ثمانين عامًا أو أكثر.. سيستعيد الآن ما في ذاكرته.. ويسألني: إنتِ شو جابِك؟ فلا أجيب. فأنا الباحثة عن مفتاح لمعرفة ما جرى، حتى لا يضيع كما يضيع الواقع الان.

أفتّش الحشد المهاجر والنازح في مخيلتي بحثًا عن كفر برعم، تلك المعلقة بين أصابعه وتنبتث وما كبُرتْ.. ما زالت على حالها قبل ان يتركها مُرغمًا..

اسا بقعد وبطول قلم وورقة وبخطِّطلك شوارع البلد وبيت بيت.. بس إنتِ شو جابِك”؟

بهذه الجملة بدأ العم عطالله شقور أبو اسعد.وهو ابن للعائلة الوحيدة في بلدة كفر برعم كاثوليك. كانت كفر برعم القرية الوحيدة في فلسطين التي تحوي أغلبية مارونية مع أقلية من كاثوليك. فعائلة شقور والتي اصلها من حرفيش كان يعمل أبناؤها بالبناء، بحكم المهنة التي امتهنوها منذ مئات السنين التجأوا الى عدة بلدات وبنوا فيها وكانت كفر برعم من تلك البلدان التي أحبوا العيش فيها فسكنوها، اضافة الى عائلة بدين وهي عائلة كاثوليكية ايضًا أتت من بلدة يارون- جنوب لبنان.

يقلِّب العم عطالله صفحات من دفاتره ويقرأ من ديوانه المطوي أبياتًا معطّرة، هو لا ينعش ذاكرته، إذ ظلّت هناك، فيقول: قبل احتلال البلد بعدة ايام، حلّقت طائرة في سماء برعم وقد كانت تقذف من الجو براميل متفجرات، سقطت واحدة من هذه المتفجرات داخل احد البيوت، فطيّرت باب البئر، هربت مجموعة من البنات خوفًا، فسقطت اثنتان في البئر ولقيتا حتفهما.

بداية تم قصف بلدة سعسع من قبل الهاجاناة، بعدها بثلاثة ايام بدأ سكان برعم بالنزوح، وقد كنا نشاهد سكان جنوب البلدة من الرامة، دبورية وصفورية وغيرها يرحلون الى الشمال عند الحدود اللبنانية يحملون أغراضهم على الحمير والبقر. كانت الهاجاناة متمركزة في منطقة ميرون وكانت بالمقابل الكتيبة العراقية متواجدة في أرض الجش، وقد استطاع القائد العراقي قطع الطريق على قوات الهاغاناة، رغم ذلك تبدلت الأمور ولا ندري ما الذي حصل، دخلت الهاغاناة الصفصاف وقد قتلت 90 شخصًا ومن ثم توجهوا الى قرية الجش وبعدها جاء دور كفر برعم.

رُفِع العلم الابيض على ظهر الكنيسة، ودُقَّ جرسها،وهي الكنيسة الوحيدة في البلدة وتعود لطائفة الموارنة، وكانت العائلة الكاثوليكية عائلة شقور تتمِّم كل المستلزمات والواجبات الدينية في هذه الكنيسة، إذ لم يكن لهم راع. أوصى يومذاك مطران العرب والمسلمين المطران الحجار، بان يعتبر راعي كنيسة الموارنة عائلة شقور ضمن رعيته وقد رفض اقامة كنيسة خاصة بالعائلة”.

الساعة الان الثالثة ظهرًا من يوم 13 تشرين الثاني 1948، حين حضر ضابط المخابرات في اللواء السابع في الجيش الإسرائيلي عمانوئيل (مانو) فريدمان إلى قرية كفر برعم، برفقة أربعة جنود، كان عطالله يخطّ أولى أبيات الشعر عن برعم.  الأول جاء ليأمر السكان، بناء على أمر وزير الأقليات بيخور شالوم شطريت، بمغادرة منازلهم خلال 48 ساعة إلى مسافة «خمسة كيلومترات» شمالا باتجاه لبنان. وعطالله خرج باحثًا عن برعم يحضنها في عينيها ليحفظ كل ما فيها في ثنايا قصيدته.

احتلت القرية قبل نحو أسبوعين من هذا التاريخ، خلال عملية «حيرام» العسكرية التي هدفت الى احتلال قرى منطقة «الجيب العربي» الواقعة في الجليل الأعلى، ومنها قرى قضاء صفد. وسعسع (قضاء صفد) وعيلبون (قضاء طبريا) ومجد الكروم (قضاء عكا)،

طلبوا من الناس الخروج من البلدة لمدة اسبوعين بحجة تنظيف البلدة من الالغام! يعود ويشدد عطالله: “لم نأخذ اي شيء، على أمل العودة بعد أسبوعين كما وعدونا. خرج عطالله شقور وهو يحمل دفتر أشعاره مع سمعان، مطانس، بطرس، أسعد، حنا وميخائيل، ولم يتجاوز يومها الحادي عشر من عمره.

خيّرونا إمّا النزوح الى قرية الرميش في لبنان أو الجش، فاخترنا الجش، لوجود الأقارب والاصحاب هناك، بعد نحو أسبوع في الأحراج والمغر وكروم الزيتون القريبة، توجهنا الى البيوت المتروكة في قرية الجش المجاورة وبلغ عددها نحو 400 بيت. ولأنها لم تتسع لجميع سكان كفر برعم، فقد اقترح الضابط فريدمان على الأهالي التوجه الى قرية رميش اللبنانية المجاورة، وهي قرية مارونية أيضًا، مع ضمان الحفاظ على ممتلكاتهم في كفر برعم، وهو ما دفع بقسم من السكان الى التوجه الى رميش والقرى المارونية المجاورة الأخرى في جنوب لبنان. وقد جاء أمر إخلاء كفر برعم مفاجئا للأهالي.

استقرّ عطالله مع عائلته في بيت من بيوت اهل الجش الذين نزحوا الى لبنان. وقد عاشوا حياة طبيعية في الجش، إذ انّ أهل الجش لم يشعروهم للحظة أنهم لاجئون، فانضمّ عطالله ومن معه من رفقاء الى مدرسة البلدة، بعد أن اعتاد مشاركة زملاء له على مقاعد الدراسة في بلدته برعم من يارون ومن سعسع ومن قرية فارة والصالحة. ومن كان ينهي الصف السابع يكمل تعليمه الثانوي في صفد أو في البصة. في الجش كلّ شيء تغيّر.. البيت، الحارة، الناس، المدرسة ،كروم التين إلا القصائد المخبأة التي ظلّت برعم في محجر أبياتها وقوافيها وبحورها.

كان عطالله واهل بلدته قد اطمأنوا إلى انهم لن يلقوا مصير التهجير الذي لاقاه أخوانهم من البلدات المجاورة. فقد أزالت السلطات حظر التجوال الذي ترافق مع احتلال القرية، كما قام الضابط فريدمان نفسه، برفقة مدير دائرة الأقليات في مدينة صفد رفول أبو، بإحصاء سكان كفر برعم في السابع من تشرين الثاني فبلغ عددهم 1050 شخصًا. وهذا ما أعطى السكان الانطباع بعدم نية الجيش الإسرائيلي طردهم، خصوصا أن القرية لم يكن لها شأن في المعارك، كما أنها لم تسجل أي مقاومة عند احتلالها.

يعود ويتذكر عطالله تلك الاجواء الاحتفاليىة في برعم. ففي كل فصل من فصول السنة يقام عرس احتفالي كبير، يحتفل فيه الناس عند قدوم احد المواسم. كانت كل عائلة في برعم تمتلك كرم تين أو كرمين، أضافة الى التفاح، كان يأتي فلاحون من عين الزيتون او من صفد حتى يضمنوا الكروم ويقطفون التين. في تلك الايام التي تكون فيها الكروم مضمونة، كان يأتي شباب برعم القاطنين في حيفا وغيرها الى البلد كل يوم جمعة اي نهاية الاسبوع لزيارة الاهل ولاقامة السحجة والدبكة وترديد الاغاني الشعبية كأنه مهرجان كبير. أين عطالله من كل هذا الان؟!

إقرث شقّ التؤام

منذ صغري لا أذكر أنني سمعت عن برعم دون إقرث والعكس صحيح، وكما يقول العم عطالله “اصبحتا حارة واحدة”. قد يظنّ الكثيرون أن البلدتين مجاورتان جغرافيًّا، لكن من يتمعن في الخريطة يرى أنهما بعيدتان، وما قرّبهما إلا الحالة القانونية التي التصقت بينهما لاحقًا، فباتت قضيتهما واحدة مسجّلة في ملف قضائي واحد مركون هناك في أقبية المحاكم وقد أكل الدهر عليه وشرب!

في 16 وَ 17 أيلول 1953، قصف سلاح الجو الإسرائيلي بيوت كفر برعم ودمر جميع مبانيها باستثناء الكنيسة والمدرسة. وقد تمّت عملية القصف هذه أمام أعين السكان الذين وقفوا على تلة تبعد نحو كيلومترين وتسمى «تلة المبكى» أو «مبكى البراعمة». وقد جاء تدمير قرية كفر برعم بعد نحو سنتين على تدمير قرية إقرث في كانون الأول 1951 بناء على خطة سميت «الترانسفير الارتجاعي»، وهي خطة تم تبنيها في حزيران 1948 لمنع اللاجئين من العودة الى قراهم. التجأ سكان كفر برعم الى القضاء، حيث قدموا دعوى قضائية من أجل العودة الى قريتهم. وفي 8 تشرين الأول، أصدرت المحكمة الأمر التمهيدي الذي نص على ما يلي: «تصدر المحكمة بهذا، أمرا تمهيديا موجها الى المستدعى ضدهم لتفسير عدم إعادتهم لسكان كفر برعم الى قريتهم وأراضيهم، وإعادة القرية الى اصحابها، وسبب عدم امتناعهم عن معارضتهم في استعمال أملاكهم استعمال المالك».

جاء رد السلطات الحكومية سريعا بوجوب اللجوء الى أنظمة الطوارئ باعتبار كفر برعم وإقرث معها مناطق أمنية مغلقة منذ أيلول 1949. وبموجب هذه الأنظمة، يحق لوزير الدفاع استصدار أوامر خروج للسكان الدائمين في المناطق الأمنية، وهي ما لجأت إليه السلطات الحكومية في سنة 1951، في أعقاب الدعوى القضائية حيث استصدرت أوامر خروج لسكان كفر برعم وإقرث، أي بعد ثلاث سنوات على تهجيرهم من قراهم، وذلك لشرعنة عملية التهجير، والالتفاف على المحكمة العليا.

وفي 30 تشرين الثاني 1951، وقع اللواء يوسف افيدار أوامر لأهالي كفر برعم الموجودين في إسرائيل بمغادرة منطقة الأمن التي تقع كفر برعم ضمنها. وبناء عليه، أصدرت المحكمة في 18 كانون الثاني 1952 قرارها الذي يلغي أمرها التمهيدي، فرهنت العودة الى كفر برعم بحيازة تصريح من الحاكم العسكري. 

ويعود عطالله الى كفر برعم ليعزز هويته ويرسِّخ صلته بأرضه، ويتغنى بجمالها فيتفح عالم قصائده وصورهُ الموضوعة بإحكام في ألبومات مسجّلة خلف كل صورة جملة للذكرى.. فيُكرِم علينا باحدى قصائده، إذ يقول فيها:

“يا مَنْ تزُرنا بلدًا تسُرُّ بكم

نِعمَ الزيارة نحن فيها في نِعَمِ

قبلَ مجيئُكُمُ قد جاءَ برقُكُمُ

وهو يشيرُ لشدِّ العزمِ والهِممِ

قوموا قد جاء إنسانًا يزوركم

بين الرعايا هو نارٌ على عَلَمِ

سيروا إيّابًا وربُّ الكونِ يحفظكم

لكنْ، توصّوا بنا عند قضاءِ الحُكُمِ”

ولمنْ هذه القصيدة يا عمُّ؟

للمطران..

وما الغاية؟

حتى يوافق أن يكلّلني!

وهل وافق؟

معلوم! كللني عام 1963 بصحبة ثمانية خوارنة آخرين.

يا الله!! ما الذي يحدث؟ هذه الحشود المذعورة المرتحلة نحو الشمال.. عبرت الغيوم والشمس اللاسعة كالعقرب والغبار.. نعم الغبار.. “احذر”، تقول له امه، “ كي لا تتسخ“.. فيطمئنها بان لا تقلق، ما هي الا ساعات ونعود.. فيتأبّط مجموعته الشعرية ويسير ببطءٍ وتدقّ الساعة ما زالت تئنّ قصيدة رثاء.. كانت برعم وصارت برعم وما زالت.

 

 

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*