عقدٌ على رحيلك، فإنهض لترى نصرَ سوريَّتنا إِشتَقتلَّك – د. خالد تركي

 

مرَّ عقدٌ بدونك ويا حسرتي

عقدٌ من الدَّياجير مرَّ علينا وأبو عايدة غائب عنَّا ويا لوعتي

فكما تعلَّمنا في الصُّفوف الأولى أنَّ القمر يغيب عن فضائنا ليلة واحدة في الشَّهر القمريِّ، ويكون في حالة مُحاق، لقد طال زمن محاقنا وديجوره، لكنَّ مُحاقَنا هنا طال زمنه، عقدٌ من الزَّمن، فحتَّى في غيابك تكون فوق المألوف والعادة والتَّقليد، لأنَّك مُتَميِّز..

متميِّزٌ حتَّى في يوم غيابك الذي صادف الثَّامن من آذار يوم المرأة العالميِّ وذكرى المؤتمر السُّوريِّ العام الذي اختار الملك فيصل الأوَّل ملكًا على سوريا ومتميِّزٌ في عشر سنوات على صعودك إلى العياء الأبديَّة، الذي يتزامن مع ذكرى جلاء المستعمر الفرنسيِّ عن الوطن سورية، بلاد الشَّمس، وقلب العروبة النَّابض،وذكرى يوم الأسير الفلسطينيِّ، وذكرى يوم المرأة العالميِّ، وذكرى قيامة السَّيِّد المسيح من بين الأموات، فنحن هنا أخوة في الدَّم والمصير والمسيرة والمسار، لا يُفرِّقنا دينٌ ولا يُباعدُنا حدٌّ، فقد وقف الثَّائر العربيُّ السّوريُّ فارس ألخوري وقفته الشُّجاعة في الجامع الأمويِّ مُعلنًا على الملأ أمام العالم وأأمام المستعمر وأمام أهالي دمشق الأبطال قائلاً: أنَّه إذا كانت فرنسا تريد البقاء في سورية لحماية المسيحيِّين فإنَّ جميع المسيحيِّين هم مسلمون وجميع المسلمين هم مسيحيِّون… وأنَّ سورية بمسلميها ومسيحييها هي وطن واحد لشعب واحد، مُفنِّدا إعتقادهم، أنَّمكان العرب المسيحيِّين مع فرنسا وليس مع الحركة الوطنيَّة السُّوريَّة وفي هذا السِّياق يقول شهيدنا داود تركي:

في عُرْفِنَا الإنْسَانُ قِيمَتُهُ

أَغْلَى مِنَ اليَاقُوتِ وَالذَّهَبِ

وَيَهُودُ هَذَا الشَّرْقِ إخْوَتُنَا

عَرَبٌ كَكُلِّ القَوْمِ في الحَسَبِ

لا فَرْقَ في دِينٍ، يُوَحِّدُنَا

وَطَنٌ شَريفُ القَوْمِ وَالنَّسَبِ

عقد من الزَّمن ينعق الغُراب في سمائنا بعد أن غاب عنَّا صقر فلسطين عشرة أعوامٍ..

عشر سنوات مرَّت ولم نرَ فيها سوى الحنين والأنين واللهفة والشَّوق المرهَف والمرهِف للقائك.

لم نعتد ولم تُعوِّدنا على غيابك ولم نتعوَّد على هذا الفراق الطَّويل منذ تحريرك، إِشْتَقْتِلَّك..

أين أنت الآن؟ أسألُكَ سؤالاً أعرف جوابه بسؤالٍ افتراضيٍّ، هل تجاورك النُّجوم والكواكب والقمران وأنت في قُبّةِ فلسطين، في قُبّةِ هذا الجزء الجريح النَّازف من وطننا العربيِّ؟ هل رأيْتَ وأنتَ في راحتك الخالدة والأبديَّة أحد عشر كوكبًا والشَّمس والقمر يسجدان لهذا الغياب الأليم والقسريِّ، هل أرسلت لنا تحيَّاتك عبر الشُّهب التي حين أراها نازلة من قلب السَّماء أطلب عودتك السَّريعة إلينا، هل أُصدِّق ما قيل لي عندما كنتَ صغيرًا: أنَّالأماني تتحقَّق إذا ما تزامنت، حصرًا، مع سقوط الشُّهُب، أم أنّها خرافة لا يعرفُ أحدٌ مدى صدقها، فكم شهابٍ رأيتُ وكم مرةٍ تمنَّيتُ مع رؤيتي وكم مرَّةٍ خُذِلْتُ وخذلني رجائي وسؤالي، وكم أخلفت الشُّهُبُ وعدَها.. إِشْتَقْتِلَّك..

هل أنت حاضرٌ في راحتك الأزليَّة؟ خالدٌ في جنَّتك الحتميَّة؟ أم أنَّك تجمع قواك لتستولي على الشُّهُبِ بعد أن رأيت، في حاضرنا ظلمة حالكة، لتُضيء لنا ليالينا الظَّلماء لنهتدي إلى الطَّريق التي لولاك ما كُنَّا لِنهتَدي إليها وما كُنَّا أقوياء ونجد طريقنا القويم لننبذ درب الضَّلال، و”لننفض عن جناحيْها غُبار التَّعبِ”، إِشْتَقْتِلَّك..

كم نبت أسيافنا في ملعب و كبت أجيادنا في ملعب

تُرى هل ستقتُلُ الذّئبَ يا أسد الأسود في صحرائنا القاحلة أم ستُخرِج يوسفُ من الجِبِّ كما جاء في رواية إخوته وهل ستكشف جريمة أخوةِ يوسفَ وكذبهم ونفاقهم أم أنَّ غيابك سيُبقينا تائهين في الصَّحراء لا نعرف مكان وجود أخينا، يوسفَ، وهل ستطاردُ غربانَ نوح بعد انتهاء الطُّوفان يا صقر فلسطين لتحمي الحمام في وطن التِّين والزَّيتون الأخضر؟ فيطير الحمام في الفضاء ويحُطُّ الحمام على الأغصان والتِّلال والرَّوابي، كما يشاء حرًّا طليقًا في الفضاء، فإن كان على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة كما قال محمود درويش فإن أبا عايدة يقول في كتابه “ثائر من الشرق العربي”: يأتي الإنسان إلى هذه الدُّنيا وفي يمينه الحقُّ في العيش العزيز والحياة الحُرَّة الكريمة، سواء وَضُعَ أهلُه أو شُرِّفوا. ومن لا يُدافع عن هذا الحقِّ إذا تعرَّضَ لاعتداء المعتدين الغاشمين فإنَّه لا يستحقّ الحياة وعيشها.

فالحياة تستحقُّ منَّا أن نُدافع عنها ونصون ترابها ونحميها من الشَّوائب والنَّوائب، فهذا هو حقُّ الحياة منَّا وعلينا، إِشْتَقْتِلَّك

لقد جاء في قصيدة أبي عايدة أنا يعرُبيُّ النَّفس:

وَدِمَشْقُ عَاصِمَةُ النُّهَى أَبَدًا

وَلَهَا وَفَائِي سَيِّدُ الدَّأَبِ

وَطَنِي فِلَسْطِينُ وَرَمْلَتُهَا

هِيَ أَوَّلُ الشَّامَاتِ فِي الشَّلَبِ

مَاضٍ، أَحُثُّ السَّيْرَ مِنْ صِغَرِي

لِفِدَى ثَرَاهَا الغَضِّ وَالرَّطِبِ

إِشْتَقْتِلَّك.. يا أبو عائدة

عندما يُقال أنَّه وراء كلِّ رجل عظيم امرأة، أقولُ كُنَّ وراءك، يا سيِّدَ الرِّجال، أربع فارسات قدِّيسات، هنَّ أمُّ عايدة وعايدة وجورجيت ونضال، كنَّ معك كأصابع اليد في قبضة السَّيف واحدة وفي الحفاظ على الجمرة واحدة وفي بناء عزَّة العرين واحدة، حيث قدَّمن الغالي قبل الرَّخيص لتبقى عزيزًا شهمًا صامدًا مرفوعَ الرَّأس والهامة، عالي الجبين والقامة ثابت اليقين، إِنَّ الظُّلم زائل والاحتلال في زوال، فكنَّ مثلاً ومثالاً في التَّضحية والإيثاريَّة والتَّفاني والمحبَّة والإخلاص والخدمة، إشْتَقْنَالَك  

وستبقى يا أبا عايدة مفخرتنا وفخرنا وصخرتنا وذخرنا وعزَّتنا وعزَّنا وذكراك ستبقى النَّاقوس في عالم النِّسيان لمن يتناسى أو يهوى النِّسيان ونذكِّر لأنَّ الذِّكرى تنفع المناضلين الأحياء والشُّهداء. فأنت القائل في الشَّهيد أحمد شكري منَّاع في استبساله على أسوار عكَّا ضدَّ المُحتلِّين يوم احتلالها:

مَا مَاتَ مَنْ خَلَدَتْ مَآثِرُهُ

بَلْ مَاتَ منَ سَفِلَتْ بِهِ الشِّيَمُ

سَيَظَلُّ لِلأَحْرَارِ مَفْخَرَةً

وَمَنَارَةً في الفِكْرِ تَنْتَظِمُ

فالمَجْدُ لِلشُّهَدَاءِ يَهْتِفُهَا

رَجُلٌ بِدُنْيَا الظُّلْمِ يَصْطَدِمُ

لأنَّ الشُّهداء أكرم من في الدُّنيا وأنبل بني البشر

فأنتَ رجلُ الرِّجالِ وبطلُ الأبطالِ وماجد الأمجاد وحرُّ الأحرار ونور المنارة وصدر الصَّدارة، إِشْتَقْتِلَّك..

الحرِّيَّة لسجناء الحرِّيَّة

والمجد والخلود لشهداء امَّتنا الأبرار

الشُّهداء أكرم من في الدُّنيا وأنبل بني البشر

فاطْمئن يا ابو عائدة أنَّ سوريَّتنا بألف خير وهي على موعد مع النَّصر، ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾ وإنَّما النَّصر صبر ساعةٍ..

انتظِرْنا في ساحة ﴿..سِدرة المُنتهى﴾..

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*