“تاكسي” – د. خالد تركي

“تاكسي”

                 د. خالد تركي – حيفا

صدر في العاصمة المصريّة، القاهرة، عن دار الشّروق، كتاب بعنوان “تاكسي” حواديت المشاوير، للأستاذ الإعلامي والكاتب والمخرج خالد الخميسي، الحاصل على لقب الماجستير في العلوم السّياسيّة من جامعة السّوربون.

صدرت الطّبعة الأولى للكتاب في شهر كانون أوّل، عام ألفين وستة، وتبعتها اثنتا عشرة طبعة حتى تشرين ثاني عام ألفين وثمانية، أي أنّه صدر باثنتي عشرة طبعة خلال سنتين.

حجم الكتاب وسط ويتألّف من مائتين واثنتيْن وعشرين صفحة، تحتوي على ثمانية وخمسين حوارًا، حيث يأخذ كلّ حوارٍ ما بين ثلاث أو أربع صفحات.

تدور حواديت الكتاب، في سيّارة تاكسي “أجرة القاهرة”، حيث يعتمد في كتابته على حواره مع سائقي سيّارة الأجرة، الذين يُمثِّلون غالبيّة شرائح المجتمع من أُمِّيِّن إلى حاملي شهادات جامعيَّة، من مخلصين ومنافقين وكذّابين وصادقين شرفاء وأنذال، من خلال سفره ذهابًا وإيابًا لمكان عمله أو لمكان ما أراد زيارته في مدينة القاهرة، حيث يعتقد الكاتب أنّ سائقي سيّارات الأجرة يعرفون نبض الشّارع أفضل من غيرهم، ويصفهم بترمومترات الشّارع المصري (الصَّايع) ص 9.

ينقل لنا الحوار بلغة الشّارع الفجّة والبسيطة والصّادقة وباللهجة الشّعبيّة العامِّيَّة.

يصوِّر لنا في أحد المشاهد عن أزمة سير في وسط القاهرة نتيجة لمظاهرة أقامها البعض ولا يعرف السّبب لكنّه يعرف أنّ مظاهرات اليوم “بيجي متين واحد ماسكين لافتات وحواليهم بيجي ألفين عسكري ومتين ضابط وعربيّات أمن مركزي قافلة الدُّنيا” ص 22. ويفسّر السّائق للكاتب أنّه بعد انتفاضة الثّامن عشر والتّاسع عشر من كانون الثّاني عام ألفٍ وتسعِمائةٍ وسبعة وسبعين والتي كادت تحيط بالسّادات الذي نعت انتفاضة الجوع بانتفاضة الحراميّة، لقد “زرعت (الحكومة خ.ت.) فينا الرّعب من الجوع، خلّت كلّ زوجة تمسك أيد جوزها وتقول إوعى تنزل..العيال حتموت..زرعوا الجوع في بطون كلّ مصري، رعب خلّى كلّ واحد يقول ياللا نفسي، وأنا مالي جت عليَّ ص 24.

حين قرّرت الحكومة المصريّة في النّصف الثّاني من التّسعينيّات السّماح بتحويل أيّ سيّارة قديمة لسيّارة أجرة لتتّخِذَ بعدها قرارًا تسمحُ فيه للبنوك بأن تُموِّل شراء سيّاراتجديدة بما فيها سيّارات الأجرة في قروض ماليّة تغطّي سعر السَّيَّارة بالكامل، حيث أدخلت السّائقين الغلابة” في دوّامة عذاب يصعب الخروج منها لتسديد القسط الشّهري،وهنا يلتقي الكاتب بسائق سيّارة غَرِقَ في سُبات عميق حال صعود الأوّل التّاكسي، وحين سأله عن السّبب، بعد أن خاف على نفسه من حادث سير قاتل، أجابه السّائق أنّه قد أقسم: حلفت على مراتي يمين طلاق بالتّلاتة ما أنا راجع البيت من غير ما أدفع فلوس القسط كلّها..ص 27، حيث أنّه لازَمَالسَّيَّارة ثلاثة أيّام بلياليها، آكِلاً، شارِبًا ونائِمًا، وحين طلب منه الكاتب أن يذهب لبيته ليرتاح قليلاً أجابه:..يعني لو رحت البيت ح القى ميت مصيبة ومصيبة، وح القى العيال مش واكلة وامّهم حايسة ولايصة..ص 27.

ويسرد لنا في فصل آخر حكاية ابنته حين خافت ركوب التّاكسي لأوَّل مرّة في حياتها بعد أن تجاوزت الرّابعة عشرة وأصبحت عضوًا في فريق ألعاب القوى في الرّكض، وعليها أن تسافر يوميًّا من البيت إلى النّادي للتّدرّب لتعود إلى بيتها بعد الانتهاء من التّدريب، حيث بيّن لها، بكلّ قناعة ساذجة في تعميمه، مدى طيبة وبساطة الشعب المصري، “فالشّعب المصري هو أطيب شعوب العالم، وعندما يجد السّائق فتاة صغيرة سوف يعاملها كأبيها” ص 109. لكّنه اصطدم بالحقيقة بعد أن قصّت عليه ابنته سفالة السّائق عندما بيّن لها غريزته الحيوانيّة محاولاً إغراءها للنّيل منها، حيث يصل الكاتب إلى الحقيقة المُرّة والأليمة “وقد رفع السّائق حجاب الوهم من أمام عينيّ، وأنا أقف الآن في المطبخ أسنُّ النَّصل لكي أسلِّمه لابنتي غدًا صباحًا” ص 110.

يقدِّم لنا كاتب هذه الحواديت كعيّنة من عيّنات المجتمع المصريبعيدًا عن التّعميم حيث تجد الشّرطي المُرتشي ” مفيش واحد في ولاد ..(راجع ص 19 لتجد الشّتيمة ) دول إلا ومرتشي وحرامي .. الله يخرِّب بيوت أبوهم زي ما بيخرّبوا بيوتنا يوماتي، ويكتب أنّ العلاقة بين السّائقين ” وبين الشّرطة التي تمارس ضدّهم في العموم ما يجعل المغفور له الماركيز دو ساد يرتاح في تربته، ( الماركيز دو ساد هو كاتب فرنسي عاش في القرن التّاسع عشر تناول في كتاباته موضوع السّعادة الحسّيّة وارتباطها بالتّعذيب الجسديّ، وقد اشتُقَّت كلمة السّاديّة من اسمه)” ص 10.  

ويذكر عن محسوبيّات وفساد هذا الوزير أو ذاك والعفن في داخل الحكومة فيقول ” إحنا عايشين في كذبة ومصدّقينها..والحكومة دورها الوحيد تراقب إن إحنا مصدّقين الكدبة ولا لأ؟” ص 40. فعندما قرّرت شرطة المرور ضرورة تركيب حزام في كلِّ سيّارة والذي يعتبره السّائق “كدب في كدب” يقول:الحكاية كلّها بيزنس في بيزنس الكبار قوي استوردوا الحزمة وباعوها وكسبوا ملايين، والدّاخليّة اشتغلت مخالفات الله ينوّر ولَمّوا ملايين، والعساكر الغلابة بتوع الشّارع يوقّفوك ويقلّك الحزام يا ابن الكلب وينوبه خمسة جنيهات ولو وقّفك ومعاه ظابط حينوبه عشرين..يعني الكلّ مستفيد” ص 39.  

وفي مناسبة أخرى يُقدِّم أحد أصدقاء الكاتب نصيحةً بأن يتراجع عن نشر هذا الكتاب لما يحويه من مواد فاضحة “قالوا لي إنّ نشرها كفيل بزجّي في السّجن بتهمة القذف والسَّبِّص 9. فمثلاً حين يقرّر الرّئيس حسني مبارك التّنَزّه، يقفلون كلّ المعابر والطّرق وتختنق حركة السّير في القاهرة قاهرة السكّان (هكذا نعتها في إحدى حواديته) لمدّة لا يعرفها أحد غير ربّ العالمين وعلى المسافر أن يُلازم التّاكسي وأن لا ينزل منهلأسباب يعرفها فقط رجال المخابرات فيكتب: “وبدأنا نسأل السّيّارات المجاورة عن السّبب .. فقيل لنا إنّ الرّئيس مبارك نازل مشوار..طيّب ربّنا يوصله بالسّلامة..ص 133 وانتظرا، في التّاكسي، تحت رحمة لهب الشّمس أكثر من ثلاث ساعات.وفي حدّوتة أخرى يقول: “وبيني وبينك زهقنا كمان أخبار الرّئيس، كلّ نشرة الرئيس قابل والرّئيس اتّصل بفلان وفلان كلّمه على الموبايل أنا مالي هو كلّم مين..” ص 137.

وكذلك يكتب عن البيروقراطيّة قاهرة وقاتلة الشّعب المسكين في كلّ إجراء خاص أو إصدار رخصة معيَّنة حيث تستغرق أكثر من ثلاثة أيّام في معدّلها البسيط.

وكذلك يتطرّق في حواديته إلى بعض مشاكل كبت الأقباط للحؤول دون حصولهم على شهادات علميّة عالية حين يصرخ سائق التّاكسي القبطي عاليًا وشارِحًا للمسافر، الكاتب: “النّهاردة الدكتور اللي بيشرف على رسالته (أخ السّائق خ.ت.) أجّل المناقشة كمان مرّة، بقاله ابن ال..(راجع ص 207 لتجد الشّتيمة خ.ت.) بيمَطْوِح فيه قول من كام سنة.. بصراحة مضطهده عشان مسيحي، عاملين في كليّة الآداب ربَّطيَّة عشان يقفوا في وش كل واحد مسيحي” ص207، لكن المسافر، الكاتب، يُعقِّب على الحادثة أنّها قد تكون صحيحة، ويكتب: قرّرتُ أن أصمت مثلي مثل جميع الصّامتين في المجتمع من حولي ص207.

ويقصّ السّائق قصّته للمسافر عن خروج الرّئيس مبارك عن الصّف العربي وأنّ وجهة مصر ليست للحرب لدرجة أنّ قريب السّائق ضابط في القوّات المسلّحة،  “بيعمل حفلات ويشتري أكل ويقدّم أكل..حوّلوه لشيف مطعم..ص 60، بعد أن تخرّج من الكليّة العسكريّة في الاتحاد السّوفييتي. لكنّه لا يُخفي خوفه من أنّ الحرب الآتية آتية ” مش بكرة حيبقى بعد بكرة فكلّ واحد دوره في البلد يجهّز

ابنه للحرب” ص 59، خاصّة بعد أن أعلن الرّئيس أن مصر مش حتحارب.

ويتطرّق كذلك للنّساء والحجاب حيث يقصّ لنا حادثتين منفصلتين تتّخِذُ فيهما

المرأةُ الحجابَ غطاءًا لأعمالها المُشينة (إقرأ فصل 11 وفصل 31). وكذلك يتطرّق إلى مشاكل التّعليم والغُربة والغلاء الفاحش ومشاكل السّكن والأحزاب بكلّ أطيافها إلخ..  

كتاب يعكس لنا حياة أشقّائنا في عاصمة مصر أمّ الدّنيافي قاهرة الغزاة، القاهرة، حيث يأخذ منها بعض العيّناتليصف لنا المجتمع المصري ويبيّنه للقارئ على حقيقته.  

الكتاب جدير بالقراءة على أمل أن يغيّر شيئًا في نمط الحياة العاديّة اليوميّة، مع أنّ الكاتب لا يحثُّ ولا يُحرِّض الشّعب لتغييرها، بطريقة مباشِرة، إلى حياة أفضل، وإلى حياة كريمة، شريفة ونزيهة تُسعِدُ الغلابة من أبناء مصر الشّقيقة، يجوز أنّه يُحاول تسليط الضّوء، وبشجاعة رائدة، على بعض الجوانب الهامّة والمُهمَّة في حياة الشّعب المصري من خلال حديث النّاسعلى أمل أن يغيّروا شيئًا ما في حياتهم، ليكون وجه الحياةآمنًا وهادِئًا يبعث الطّمأنينة في قلب الشّعب الكادح ليدخلوندخل ﴿..مصر إن شاء الله آمنين﴾.

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*