العصفور العنيد – إديتا داود
- by منصة الراي
- August 8, 2019
- 0
- 1603  Views
- 0 Shares
العصفور العنيد
إديتا داود – حيفا
بعثت الشّمسُ أشعّتَها الرّبيعيّة الأولى إلى رحلة في رحاب الوطن، آمرةً حزمة، من حزماتها الإسراع إلى الجبال والهضاب والسّهول، وإلى الينابيع والأنهار والوديان المُتدفّقة بخريرها الوادع العذب إلى البُحيرات والبحار لتُرطّب أقدامها وتسبح في مياهها ولتعود بعدها إلى حضن أمّها، الشّمس. لكنّ حزمة واحدة لم تعُد.
نزلت أشعة الشّمس من الزّرقاء العالية، مسرِعةً لتلبية طلبأمّها، فقد سخّنت مياه البحار والبُحيرات والأنهار والوديان وبدأت أسراب السّمك سباحتها بهناء، وظهرت على وجه الأرض الدّافئة الأزهار بألوانها الهادئة العطِرة والزاهية الجميلة،واستمرّت أشعة الشّمس نزولها وقفزها بين الأحراش ومن شجرة إلى أخرى حيث تفاعلت العصافير لدفء الجوّ بزقزقة شكرت فيها الشّمس، أمّا الحمام فبدأ بهديله يُفتّش عن “يا جوختي”.
وكم كانت الشّمس مطمئنّة وهادئة لبهاء وجمال وسِرّ الطّبيعة.
جلست حزمة واحدة من أشعّة الشّمس الّتي بقيت في الغابةعلى غصنِ شجرةٍ، متنفّسةً الصّعداء لعملها في ذلك اليوم. لكنّها سمعت صوت عصفورين يتحدّثان “زوجتي العزيزة، جميع البيض قد فقّس وخرجت منها الأفراخ عدا واحدة وعليك الصّبر والجلوس بعض الوقت ريثما تُفقّس البيضة الأخيرة” لكن العصفورة كان تعِبة جدًّا من الرّكود على البيض، حيث كان عليها أن تطير وأن تفرد جناحيها لأشِعّة الشّمس والهواء لتدفئة عظامها وتهوية ريشها بعد أن ملّت الركود فترة طويلةعلى بيضها في العشّ. فقد جفّ لسانها عطشًا، والتصق بالحلقِ، وجاعت، وقالت لزوجها العصفور: أنت يا حبيبي لا تستطيع أن تحمل مشقّة إحضار الطّعام للأفراخ ولي، وحدك!قال لها: لا عليك، فأنا قادر على عمل واحتمال كلّ شيء
في سبيل لقمة عيش للعائلة.
فقد حلّق بعيدًا لإحضار الطّعام من الحقول والماء من الينابيع خلال النّهار وقطرات النّدى من أعناق وتيجان الورود صّباح كلّ يوم.
خجلت الحزمة من الحديث لأنّه كان حريّ بها أن تصمّ أذنيها وألا تستمع إلى حديث الكبار أو كان عليها أن تذهب لمكان آخركي لا تسمعهما. لكنّها أرادت المساعدة. فأخذت الحزمة نفسها وحطّت على أجنحة العصفورة، الأمّ، تلامسها وتدخل بين ريشها وخفضت الأفراخ رؤوسها من حرارة الأشعّة خجلاً، وطلبت الماء لكن والدها لم يستطع إحضار الماء للجميع وبالسّرعة الّتي يطلبونها، خاصّة بعد أن جفت قطرات النّدى داخل الزّهور وتيجانها من شدّة حرارة الشّمس.
حين أرادت الحزمة العودة، رأت أنّ البيضة الأخيرة قد فقّست، وخرج منها
فرخٌ رطبٌ، وما أن فتح منقاره حتّى بدأ يطلب الطّعام والشّراب.
كبرت الأفراخ، واشتدّ عودها وبدّلت زغبها بريش قويّ، واستعدّت للتّحليق والطّيران الأوّل. وعبّر الوالدان عن سعادتهما الّتي لا تعرف الحدود وفخرهما الجيّاش لطيران وتحليق أفراخهما، قائلين “إنّ تعبنا لم يذهب جفاءً ولا هباءً“.
كانت العصافير تُحلّق حول عشّها إلا عصفور واحد ادّعىالتّعب والإرهاق وفضّل البقاء في العشّ. ونظرت الأمّ لعصافيرها الفرحة بحزنٍ مقارنة إيّاهم بذلك الفرخ الكسولالّذي لا يريد الطيران ويتحجّج “جناحاي يؤلِمانني وعينايتحرقانني وكم كانت الحجج الواهية كثيرة…
سقط الوالدان في حيرة من أمر فرخهما، حيرة بدون حلّ أو مخرج. كيف السّبيل لحثّه على الطّيران والتّدريب والتّمرين ولمعرفة ما حوله وترك العشّ لإحضار الطّعام والشّراب، وعلى الأقلّ لكفاف يومه. لكنّه كان يختار سبيله للجلوس والنّوم وعدم الحراك. ماذا يفعلان به، فهو فرخهما ومن طينتهما، فأتزرا بالصّبر والأمل علّ النّشاط والعمل يأتيانه قائلين له، دومًا: عليك بالطّيران والتّحليق وإن لم تكن عصفورًا مدرَّبًا ومجرَّبَالجناحين والعينيْن، تهلك، إيّاك والهلاك! لن تجد حينها مُعينًا ولا شَفيعًا.
غضبت حزمة الأشعّة الوحيدة الّتي بقيت في الغابة من العصفور، ونسيَت العودة إلى أمّها، الشّمس.
ذات صباح ربيعيّ جميل قرّرت الأمّ ترك العشّ لتطير وتُحلّق لأنّ الكسل والوهن أصاب جناحيها نتيجة عدم استعمالهما. ومع ذلك بقي العصفور الكسول دون حِراك، وحده.
وفي لحظة بدأت العصافير تحلّق بشكل عشوائي وكذلك حيوانات الغابة تتراكض دون هدف، فقد كان هدفها الوحيد الابتعاد عن الحريق الّذي شبّ في الغابة وبدأ يأكل كلّ شيء في طريقه، فلهيب النّار جشع ولا يعرف الاكتفاء ولا الرّحمة، فاقد شعور الشّبع. وتعالت أصوات كثيرة في الغابة من جميع الحيوانات تُنادي بعضها البعض ومُطالِبةً بعضها البعض وخاصّة العصافير بالهروب لأنّ هذه النّار تحرق الأجنحة ومن بعدها التّهلكة…..
فقال العصفور الكسول: حريق، حريق، ما معنى حريق، وكيف عليّ الطّيران ومن أين وإلى أين. “ماما ماما ماما“، وعندما سمعت الأمّ مناجاة فرخها ورأت حاله أسرعت إلى العشّ لإنقاذه، داعية إيّاه ترك العشّ واللحاق بها، لأنّ النّار قاسية وحارِقة لا تعرف الرّحمة وتأكل الأخضر واليابس. “هيّا ألحقني. ستحرق النّار بلهيبها العالي كلينا إنْ بقينا هنا، هيّا، أسرع. الرّياح شديدة وعاصفة وخمسينيّة، والحريق يقترب منّا هيّا، الفرار ملجؤنا ومنقذنا ومُسْعِفنا، هيّا..
وبينما هما على هذه الحال وإذ بأفعى كبيرة تقترب من العصفور، راغِبة في افتراسه، لكن الأمّ طلبت منها ترك عصفورها، وبدأت بالطّيران عدّة مرّات عاليًا والنّزول بشكل عموديّ على رأس الأفعى مانعةً إيّاها الاقتراب من عصفورها في
العشّ. قالت الأمّ: هيّا يا عصفوري، حرِّك جناحيك، طِر وحلِّق إلى العلياء بعيدًا،
فأنا لا أقوى على الاستمرار في هذه المعركة ما بين لهيب النّار وخطر الأفعى، فإن طرْتَ أنقذْتَ نفسَكَ وأمَّك، هيّا طِر وحلّق…
طار العصفور عاليًا تارِكًا العشّ ومندهشًا من جمال الطّبيعة وحُسْنِها، ومناظرها الخلابة، وفجأةً تذكّر أمّه!! “ماما ماما أين أنتِ؟“ نظر إلى أسفل فوجدها في العشّ نائمة، فسألته نفسه: “لماذا تُلازم أمّك العشّ الّذي حثّتك على تركه وهي الآن دون حِراك“. وحين اقترب من العشّ عرف أنّها قد ماتت حِرْقةً على ابنها ومحروقة من الحريق الّذي التهم ريشها.
طار العصفور رطِبَ الرّيش من دموع بكائه الشّديد على أمّه، لا يرى شيئًا سوى ذنبه بموت أمّه، لكن ما نفع النّدم بعد مأساةموت الأمّ، وعادت حزمة الأشعة إلى شمسها، في حين سخرت الأفعى من العصفور الكسول والعنيد، الّذي لم يسمع نصائح أمّه.
(الكاتبة، سلوفاكيّة القوميّة وتقيم في حيفا. وهي حاصلة على شهادة علم المكتبات من جامعات جمهورية سلوفاكيا)