مصطفى رابينوفيتش – د. خالد تركي
- by منصة الراي
- August 31, 2019
- 0
- 1062  Views
- 0 Shares
مصطفى رابينوفيتش
أهدتني ابنتي ميّ كتابًا، كانَتْ قد قرأتْهُ خلال فترةِ دراستها في الجامعة العبريَّة، وروت لي أحداثَه، باقتضاب بخيل وتشويق، حتَّى أطالعه. فقد شدَّني لقراءته عنوانُه الغريب، “أنا مُصطفى رابينوفيتش” للكاتب العبريِّ آشِر كرابيتس، مُصَوِّر وطيَّار، ومُحاضر في موضوع الرِّياضيَّات والفيزياء، كان محقِّقًا في الوحدة القطريَّة “لِلإجرام الخطير”، وعمل ضابطًا في إحدى وحدات المستعربين، يروي لنا في كتابه حياة جنديٍّ إسرائيليٍّ يُدعى يائير رابينوفيتش يخدم في فرقة “المستعربين” العسكريَّة تُسمَّى “دوفدوفان“..
وكلمة “مُسْتعرِب” تعني ذلك الشَّخص، الذي يعيش بين العرب، ويحاولُ تقليد تصرُّفاتهم ولغتهم وزيِّهم وعاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم بوضوح وامتياز حتَّى أنَّه يحاول أن يُصبحَ منهم بالمعنى السَّلبي، ولغاية في نفسه، ويُتقنَ لغتهم، لكنتهم ولهجتهم، وذلك بحسب المنطقة المبعوث إليها، لأنَّ اللغة المحكيَّة (اللهجة) تختلف عن بعضها البعض باختلاف المناطق، فلهجة ابن الجليل تختلف عن ابن المثلث أو النَّقب أو الضِّفَّة أو غزَّة وحتَّى لهجة أبناء الجليل مثلاً تختلف، هي الأخرى، عن بعضها البعض باختلاف موقع تلك البلدة أو القرية أو المدينة.
وليس من الضَّروري أن يكون “المستعرب” يهوديًّا، فكما نعلم أنَّ هناك عربًا في هذه الوحدات الخاصَّة..
أمَّا وحدة “دوفدوفان” فهي وحدة قتاليَّة لنخبة النُّخب من العسكريِّين، ولذلك سُمِّيت
بهذا الاسم، الذي يعني بالعربيَّة الكرز، لأنَّ الكرز أفضل أنواع الفاكهة، حيث يضعونها على رأس الكعكة أو الحلوة لتزيينها حتَّى تُضفي عليها جمالاً ورونقًا وخصوصيَّةً مٌمَيَّزة
إنَّها فرقة حربيَّة، عسكريَّة عدائيَّة وعدوانيَّة، تنفِّذ حكم الإعدام والقتل بدم بارد، دون محاكمة، لمطلوبين ومطاردين ونشطاء في المقاومة الفلسطينيَّة وسياسيِّين، وحتَّى أنَّ بعضهم يشارك الفلسطينيِّين في مظاهراتهم، بعد أن يتخفَّى لابسًا زيَّهم ويدخل بينهم وحتَّى أنَّهم يهتفون شعارات قوميَّة متطرِّفة لإبعاد الشَّكِّ عنهم وفي لحظة معيَّنة يُحيطون المطلوب ويعتقلونه. أسَّس هذه الوحدة “رجل السَّلام” إيهود براك في منطقة الضِّفَّة الغربيَّة عام ألفٍ وتسعمائةٍ وستَّة وثمانين، قبل الانتفاضة الأولى لشعبنا الفلسطيني. ومن يدخل هذه الوحدة يعرف تمام المعرفة أنَّه ينبغي عليه أن يكون قاسيًّا ولئيمًا وفاقدًا لإنسانيَّته وشعوره وقاتلاً، ويجب عليه أن يكون مجرِمًا..
أمَّا بطلُ الرِّواية فهو يائير رابينوفيتش. ترعرع في بيت متديِّن، تأثَّر كثيرًا من العروض العسكريَّة التي كانت تجول في شوارع مدن البلاد يوم احتفالهم باستقلالهم، ويوم نستعيد، نحن، أحداث نكبتنا. فهو عسكريٌّ من هذه الوحدة، ويحمل كلُّ عضوٍ في هذه المجموعة اسمًا عربيًّا، يُنادَى به، فسُمِّيَ يائير “مُصطفى”، وقد شارك في عدَّة عمليَّات عسكريَّة وتصفيات جسديَّة لكثيرٍ من المناضلين الفلسطينيِّين خلال فترة انتفاضة القدس، ويُحاول أن يُبيِّن لنا مدى صراعه مع نفسه، بين الإنسان والقاتل، بين الإنسانيَّة والوحشيَّة، ففي البداية كان ينفِّذ أوامر القتل والتَّصفيةِ بلهف وشغف “كمصَّاصِ الدِّماء” ويُحاول أن يُظهر أوجه الخلاف بينه وبين النَّازية، من خلال ابن نظميَّة، البكر، الذي خرجَ من بيته المحاصر في سلفيت، قضاء نابلس، بعد أن قُتِلت والدته بتفجير حزام المُتفجِّرات، الذي كان يُحيط بطنها، فقد خرجَ رافعًا يديه ومسلِّمًا نفسه للجيش ومن بعدها سُلِّم وأخويْه للصَّليب الأحمر، وعندما رأى “مصطفى” هذا المشهد تذكَّر الطفلَ اليهوديَّ، في صورته المشهورة في معسكر الإبادة والموت في وارسو رافعًا يديْه..الفرق أنَّ الجنود النَّازيِّين قتلوا الطَّفلَ بينما هو سلَّم أطفال نظميَّة إلى الصَّليب الأحمر..ويتذكَّرُ أيضًا صديقه العسكريَّ الذي سقط في التَّدريبات ويقول له:”يِرْمِي يا خَلْقِة أحمق! يا ليتك استطعْتَ القدوم لتَرى كم نحن سيِّئون في أن نكون نازِيِّين” (“أنا مُصطفى رابينوفيتش” ص 159)..
يعيشُ “مُصطفى” حالة كغالبيَّة أبناء جلدته، يُؤيِّدون الاحتلال وقمعه وتعذيبه وقتله
واضطهاده ومُصادرته للأراضي ولهدم البيوت، في الجليل والمثلَّث والنَّقب، “السَّبعة وذمَّتها” وبالمقابل يشفقُ على الأبقار التي كان يرَبِّيها والده والتي تُعاني من جشع التُّجَّار في الرِّبح، إذ كان يحرم العجل من رضاعة حليب البقرة ويُطعِمها العلف المالح حتَّى تشرب الكثير من الماء وتُذبح دسمةً وسمينةً..
ويُفكِّر بصدقِ طريقه حين يحاول أن يشعرَ، جاهدًا وفاشلاً، شعورَ ذلك الفلسطينيِّ الذي اغتصب أرضه وهَجَّرهُ أو هَدَمَ بيته وأبعَدَهُ، حين حاول أن يُشارك الفلسطينيِّين في مسيرة جماهيريَّة خلال الانتفاضة، لكنَّه فَشِلَ بذلك وعاد إلى كتيبته لِيستمر في القتل..
ويبقى يائير رابينوفيتش في حالة ضياع حيث ينهي روايته في الكنيس يُصلِّي ويُحاول يتابع الصَّلوات والتَّراتيل، ويحمل بين يديه كتابًا. “الأيدي أيدي مصطفى والصَّوتُ صوتُ رابينوفيتش. أنا موجود وغير موجود، وأنا أشغل مساحةً صغيرةً” (“أنا مُصطفى رابينوفيتش” ص 164)..
إلى متى سيبقى “مصطفى” بهذا التَّفكير، ألم يحن الوقت ليشعرَ معاناة شعبنا والإجحاف والغُبن الذي يلحق به، وأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يخلدَ إلى الرَّاحة والاطمئنان طالما يعيش جاره في بؤسٍ وظلمٍ وعوزٍ وأنَّ لا سلام مع الاحتلال، وأنَّ البديهيَّة تشير إلى أنَّ الاحتلال إلى زوال..