حيفا في ذاكرة برهوم، كي لا تُنسى.. (الحلقة الخامسة) – د. خالد تركي حيفا

 

حدَّثني والدي، ذات يومٍ، خلال جلستنا الصَّباحيَّة على شرفة بيته خلال قهوة الصَّباح  وصحيفة الإتِّحاد في يده، كعادتنا في كلِّ صباحٍ، أنَّ والده، جدِّي سمعان، قد توفَّاه الحيُّ القيُّوم، في اسبوع آلام السَّيِّد المسيح (ع) في شهر آذار من العام الخامس والأربعين من القرن الماضي حينها كان والدي في الصَّف الخامس الإبتدائي، في المدرسة الأسقفيَّة، للرُّوم الملكيِّين الكاثوليك في حيفا، بالقرب من كنيسة مار الياس، للرُّوم الملكيِّين الكاثوليك، حيث يفصل بين المدرسة والكنيسة شارع اللنبي، مار الياس نفسه نابذ عابدي البعل والأصنام والأوثان، حامي حيفا.

كان موقع المدرسة ما بين طريق اللنبي وشارع مار يوحنَّا المعمدان (نزلة الكلداوي) في حيِّ وادي النِّسناس، في حوش الكاثوليك، وفي شهر تمُّوز من ذلك العام، حصل والدي على الشَّهادة  الثَّانية في التَّعليم الدِّيني، وهي التي كانت تؤهِّله للسَّفر إلى دير المُخلِّص، الواقع بالقرب من قرية جون في قضاء الشُّوف، محافظة جبل لبنان، لدراسة علم اللاهوت كرغبته، ليُصبح بعدها كاهنًا وخادمًا للرَّعيَّة، في أيِّ مكان في العالم يختارونه له، جنديًّا في خدمة الرَّعيَّة، لكنَّ وفاة والده، جدِّي، حالت دون ذلك، إضافةً إلى طلبٍ من جدَّتي له، بعد الوفاة، أن يبقى في البلاد لمساعدتهم في تقاسم مجهود مصاريف البيت بعد غياب عاموده حيث التجأ والدي إلى مساعدة أخيه البكر، داود، الذي لم يُنهِ دراسته الثَّانويَّة بسبب الحالة الاقتصاديَّة الصَّعبة وبدأ يعمل في قسم الجمارك، في ميناء حيفا، حيث كانت لغته الإنجليزيَّة على مستوى عالٍ من التَّفوُّق، وكذلك لمساعدة والدته ام داود، في ايَّام عطلته المدرسيَّة، الفصليَّة منها والموسميَّة وفي الأعياد، فقد رفض شقيقُه داود ان يترك والدي وأخوه الأصغر، بطرس، مدرستهما، لأنَّه كان يُردِّد دائمًا، العلم سلاح يُزوِّدك ويُجهِّزك لمحاربة صعوبات الدَّهر ومشاكل العصر ويدُلُّك على الطَّريق الصَّحيح وصواب التَّفكير لتجاوز الصِّعاب، وتواجه فيه كلَّ عقبات المستقبل، منتصِرًا، فالعلم نورٌ يُضيئ الدَّرب ونورٌ يُستضاء به والعِلم فريضةٌ على الإنسان، متابعًا قوله ببيت من الشِّعر:

شبابٌ قُنَّعٌ لا خير فيهم وبورك بالشَّبابِ الطَّامحين

وبفضله تابع والدي دراسته إلى صف الثَّاني ثانوي فقط، حيث حالَ هبوط الكارثة على رأس شعبنا الآمن، دون استمراره دراسته، وفُرِضت عليه كما على باقي أبناء شعبنا، النَّكبة، فُرِضَت علينا حياة أخرى، وسبَّبت له كارثةً أخرى،  كما سبَّبت لغالبيَّة أترابه وزملائه الطُّلاب، إذ ترك مقعد الدِّراسة قسرًا إلى ساحة الشَّقاء والعناء والكدح والتَّعب إلى سوق العمل  مُكرهًا وعرف كيف السَّبيل، إلى ما يُريد..

لكنَّ حالة يُتم الأب، صقَلت جدَّتي وأبناءها الثَّلاثة صقلاً، في الإعتماد على الذَّات بإرادةٍ صلبةٍ ومواجهةِ المعضلات بهامة مرفوعة، لا تعرف الإنحناء، لانتشال العائلة من بين أنياب العوز والجور والضِّيق وقسوة الفقر الذي لا يرحم، حيث أنَّ مرارة اليُتم دفعتهم إلى الجدِّيَّة في العمل وقبول هذا التَّحدِّي، والانتاج والمواظبة على العلم والدِّراسة والتَّحصيل العلميِّ الباهر والزَّاهر..

﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾..

راحت جدَّتي تبكي وتنوح على مصابها الأليم، وتذكُر محاسن فقيدها الكبير، عامود البيت يا سمعان، وفقيد عائلتها، وعزِّ ديارها، حيث كان يحتضن أبناءه ويحميهم برمش العين، يواصل الليل بالنَّهار من أجل تلبية ما يريدون، من حاجيَّات وما يعوزون من اشياء ليكونوا في بحبوحة ويُفرِّج كربهم، ولم يرِد لهم ان يعيشوا الشَّظف والضِّيق الذي عاشه، أيَّام السَّفر برلك والفراري، ويعيشه تحت نير الإحتلال البريطانيِّ البغيض، فكان يصبو لأن تكون لهم عيشةً حرَّةً رغيدةً أفضل ممَّا كانت له، وأن يصِلوا إلى ما يصبون إليه، إلى أعلى الرُّتب والمراتب وإلى ما لم يستطع إنجازه هو بنفسه لنفسه..

كانت لوعتها على الأطفال “زُغْبُ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ”، فها هي جدَّتي صديقة، الحرَّة، أخت الرِّجال، التي تجوع ولا تأكل بثدييها، تُشمِّر عن ذراعيها إلى سوق العمل، خادمةً في بيوت أغنياء حيفا وفي دير المطران في المدينة، لتسدَّ رمق أطفالها ولتعطيهم كلَّ ما يحتاجونه من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومن حاجيَّات المدرسة، حيث كانت تؤمن بالعلم والعمل والثَّقافة والمثابرة، طبعًا بعد إيمانها بربِّ السَّباؤوط، لقد كانت جدَّتي أم داود تحفظ فرائض الصَّلوات جميعها، والأشعار على أنواع بحورها، التي كانوا يدرِّسونها في مدرسة الدَّير، لكنَّهم، للأسف، لَم يعلِّموا البنات في تلك الحقبة الكتابة والقراءة “خوفًا وحرصًا” من المدرِّسين على ألا تتجاوَزْنَ “أصول الأدب والدِّين” ولكي لا يكون تعليمهنَّ وسيلة لكتابة رسائل غرام وحبٍّ لأصدقائهنَّ وقراءة رسائلهم وأجوبتهم، على حدِّ تعبير مدير المدرسة. وبهذا تكون جدَّتي، كما اترابها، قد حُرمنَ من نعمة القراءة والكتابة والتَّعلُّم والمعرفة..

كيف هذا!

ألم يأمر ربُّنا رسولَه العربيَّ محمَّدًا (ص) في القرآن الكريم، خلال اعتكافه في غار حرَّاء متعبِّدًا، بأن ﴿إِقْرَأ..﴾، فأَقرأَ الأمِّيَّ، وانتصرَ بعد أن عرف القراءة، ونشر القراءة والدِّين بين أبناء وبنات الشَّعب في أصقاع الكرة الأرضيَّة وبثَّ نوره في المشرقين، فأين نحن من هذه السُّورة الجميلة الكريمة واين نحن من هذه البيِّنة، تاركين الجهل والعتمة والظُّلمة والأمِّيَّة تأكل بعضنا وتنهش في أطرافنا نهشًا، وترمينا في نار الجهل والأمِّيًّة!

لقد نقلَت لنا الكاتبة الإيرانيَّة آزار نفيسي (2)، في روايتها المترجَمة للعبريَّة “أَشْيَاءٌ صَمَتُّ  عَنْهَا”، كيف وصفوا النِّساء المتعلِّمات في بلاد الفرس على أنَّهنَّ “نِسَاءٌ بِدُونِ خَجَلٍ” (ص 363)، ويَتَّهمونهنَّ بالعلمانيَّة، التي تُشجعهنَّ على كتابة رسائل حبٍّ

للرِّجال ويُصبحنَ بدون خجل..

لأنَّ النِّسَاءَ حِينَ يَبْدَأنَ فِي التَّفْكِيرِ يَفْقِدْنَ الخَجَلَ” (ص 364)

إنَّ التَّعليم والدِّراسة والعلم يشكِّلون خطرًا على القوى الرَّجعيَّة والقوى الظَّلاميَّة اينما حلَّت، خاصَّةً عند الذين يريدون طمسَ تطوُّر المرأة وهويَّتها، متجاهلين بذلك حقيقة بديهيَّة، أنَّ تثقيف المرأة وتطوير امكانيَّاتها ومقدَّراتها وقدراتها، هي الرَّافعة الأساسيَّة والهامَّة والدَّافعة إلى أمام، إلى تطوير المجتمع وتقدُّمه، حيث أنَّ المرأة أساس المجتمع وعماده وحبل وتينه، وهي صارية المجتمع التي يُشدُّ إليها الشِّراع، الذي يوجِّه اتِّجاه السَّفينة، وهي مرساة الأمان التي تمنع السَّفينة من التَّخبُّط فترسو ثابتة في وجه الأنواء، وهي امُّ المجتمع ومدرَسته ومُدرِّسته:

الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتَها أعددْتَ شعبًا طيِّب الأعراق

الأمُّ روضٌ إن تعهده الحيا بالرَّيِّ أورق أيَّما إيراق

والمرأة هي أكثر من نصف المجتمع إن اردنا إنصافها، ويجب إنصافها وأيُّ عمل أو نهج مغايرٍ لحقِّها فإنَّه يصبُّ في تجهيل المجتمع قاطبةً، وكبت أفراده وأسْرهم، حيث يقول الإمام الشَّافعيُّ: قد أُتيتَ علمًا، فلا تُطفئ نورَ علمكَ بظلمةِ الذُّنوب، فتبقى في الظُّلمةِ يوم يسعى أهلُ العلمِ بنوره..

ومن النِّساء نجد المرأة العاملة، الفَلاحة، الجريحة، الشَّهيدة، المُناضلة، البطلة، المُعتقلة،  المُوَظَّفة، الكاتبة، الأديبة، الموآزِرة، الطَّبيبة، المُمَرِّضة، الزَّميلة، المُعَلِّمة، المُحامية، المُربِّية، الحاضِنة، الجدَّة، الخالة، العمَّة، الحماة، العين السَّاهرة، الإبنة، الأُخت، الزَّوجة، والمرأة هي العِرض والشَّرف ونور العيون، فلا تكتمل حريَّة الرَّجل بدون حرِّيَّة المرأة، فلولاها لم نكُن ولم نبقَ ولم ندُم، هي الأمُّ هي الرَّفيقة هي النَّصيرة هي الأمل وهي كلُّ شيءٍ لأنَّ “الجَنَّةَ تَحْتَ أَقْدَامِ الأُمَّهَات” لذا “فاستوصوا بالنساء خيرًا” فهي مدرسة ونور الحياة ومُهجة القلوب، هي حياتنا وحيويَّتنا، وحبُّنا وأَحَبُّ الناس لي أمِّي لأنَّها الماء والهواء والسَّماء والدَّواء. وهذه هي أسماء المرأة الحُسْنى.

إنَّ التَّعليم والدِّراسة تشكِّل خطرًا على القوى الرَّجعيَّة والظَّلاميَّة في مشرقنا، المعنيَّة في طمس تطوُّر المرأة وهويَّتها، وتعلم علم اليقين بالحقيقة، أنَّ المساهمة في تثقيف المرأة، وتطوير إمكانيَّاتها ومقدَّراتها وقدراتها، هي رافعة أساسيَّة وهامَّة جدَّا ودافعة مسرِّعة لتطوير المجتمع، حيث أن المرأة هي أساس المجتمع وأيُّ عمل بعكس هذا الاتِّجاه يصبُّ في إطار تجهيل المجتمع وكبتهِ وأسرهِ..

وهل يطير البازيُّ دون جناح”..

النِّساء شَقَائقُ الرِّجال”..

كانت جدَّتي، حتَّى تُعوِّض ما كان ينقصُها من تعليمٍ، تطلب من أبنائها عندما يُحضِّرون وظائفهم البيتيَّة، من قراءة وكتابة وحفظ الأشعار، بأن يتلونها عليها بصوت عالٍ حتَّى يتسنَّى لها سماع إلقائهم وحفظ ما يقولونه وتسميع ما كانوا يقرأونه لها..

لقد كانت تواصل شَفقَ نهارِها بغَسقِ ليلها، ملازمة لبيتها ساعة انتهائها من العمل ملتزمة بهموم ابنائها على مدار السَّاعة، وقد أخذت من تربية أبنائها تحدِّيًا مشروعًا، ومشروعَ تحدٍّ، يرفعهم إلى أعلى درجات العزِّ وأسمى خطوات الثَّبات، على أن يكونوا مستقلِّين دون الحاجة إلى الغير، وهي الصَّبيَّة الجميلة السَّمراء والفتاة الحسناء ذات ضفيرتين طويلتين سوداوَين تلامسان حقويها، وهي الأرملة في صباها، التي ضحَّت بكلِّ شيئ من أجل بيتها وابنائها، لتعطيهم كلَّ ما يحتاجونه، ولكي لا يشعروا بآلام وتعاسة ونكد اليُتمِ ولا بنقص روح الوالد في البيت ونغص الحياة بدونه..

لقد كانوا يرون بوالدهم، جدِّي، قادرًا على كلِّ شيئ، مثالهم الأعلى، يُحاكونه في كلِّ شيئٍ، في عمله، في تصرُّفاته اليوميَّة وأعماله البيتيَّة، كما يقول الشَّاعر رؤبة بن عبد الله بن العجَّاج في مدح الصَّحابيِّ عُدي بن حاتم الطَّائيِّ:

بِأَبِيهِ اقْتَدَى عَدِيٌّ في الكَرَمِ ومن شابه أباه فما ظلم

ويقول شاعر آخر:

والابنُ ينشَأُ على ما كان والِدُهُ     إِنَّ الجُذورَ علَيها ينبتُ الشَّجرُ

(نتواصل، انتظروا وشكرًا)

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*