حيفا في ذاكرة برهوم كي لا تُنسى.. اسكندر عمل – حيفا
- by منصة الراي
- November 23, 2019
- 0
- 1119  Views
- 0 Shares
اسكندر عمل – حيفا
ذاكرة برهوم ليست ذاكرة فرديَّة، انَّها الذَّاكرة الجماعيَّة للعرب الحيفيِّين الذين تجذَّروا في أرضهم والحيفيِّين الذين هاجروا وهُجِّروا. والذَّاكرة الجماعيَّة هي الضَّمان وهي الشَّاهد، وهي التي تزرع فينا الأمل في العودة والبقاء.
ورأى د. خالد تركي ببصيرته الوطنيَّة أنَّ عليه أن ينقذ هذه الذَّاكرة الجماعيَّة وأن يعيدها إلى أذهاننا عن طريق من تبقى منها، لأنَّضياع البقيَّة بعد “عمرٍ طويل” هو مأساة وكارثة لا يمكن توقُّع نتائجها ولكن لا شكَّ انَّها ستكون مأساويَّة حقًّا.
صحيح أنَّ هناك حقائق تاريخيَّة نعرفها ولكن هناك محاولات عديدة لطمسها وتغييرها، وعلينا أن نكون متيقِّظين لها ونأتي ببراهين ممَّن كانوا حريصين على كتابة تاريخ هذه المدينة والذين أتوا بإثباتات تؤكِّد عروبة هذا البلد، كالمؤسَّسات العلميَّة والصُّحف والحياة الرياضيَّة وأماكن العبادة من مساجد وكنائس.
المأساة كانت مؤلمة والتَّهجير والشَّتات كانا من نصيب الأكثريَّة السَّاحقة، سكَّان هذه المدينة، العرب الفلسطينيِّين، ولكنَّهم كما يقول د. خالد تركي “في العبِّ يحملون الكوشان وفِي الجبِّيخبِّئون المفتاح، وفِي الجيب يقبضون على جمرة أملٍ في العودة إلى ديارهم… “. “الدَّهر عكروت والأيَّام جارت” كما قال جدُّه يوسف الذي فَقَدَ إبنه تركي وهو في ربيع العمر بعد انفجار قنبلة من بقايا جيش بني عثمان أو البريطانيِّين وهو ليس الوحيد الذي قضى نتيجة مخلفات جيوش الاحتلال الذين توالوا على هذه الأرض ، فقد كان ظلمهم يلحقنا حتى بعد انقلاعهم عن أرضنا.
المأساة كما يراها كاتبنا هي في اخوتنا العرب، الذين أضاعونا وأضاعوا فلسطين ويستشهد بنزار قباني حيث قال “سقوا فلسطين أحلامًا ملونةً وأطعموها سخيف القول والخطبا
وخلفوا القدس فوق الوحل عاريةً تبيح عزَّ نهديها لمن رغبا
يا من يعاتب مذبوحًا على دمه ونزف شريانه، ما اسهل العتبا
أليس هذا حالنا اليوم أيضًا، لكنَّ شعبنا رغم كل ذلك متشبِّث بحقوقه كما يقول الكاتب “إنَّ ارتباطنا بأرضنا وحبَّنا لوطننا وثيقان كارتباط الجنين بحبل السُّرة وهو في رحم أمِّه..”
لا ينسى كاتبنا أن يصف المدارس في حيفا بأسلوب جذَّاب ورائع ولكنَّه ينتبه بحسِّه الطَّبقيِّ الى أنَّ “الطُّوش كانت تعلق”بين طلاب مدرستي الأسقفيَّة والفرير على أسباب طبقيَّة بين “الأغنياء والفقراء”.
رغم قسوة المدراء الذين كانوا، رجال دين عادة، إِلَّا أنَّ نشيد الصَّباح كان “موطني”، والصَّف الذي درس فيه برهوم كبقيَّة الصُّفوف كان فيه تلاميذ من مختلف الأديان، كأنَّهم عائلة واحدة، لا يعرفون العنصريَّة أو التَّزمت، يُنشدون الأناشيد الوطنيَّة الصباحيَّة. ويذكر برهوم أنَّ معلِّم اللغة العربيَّة كان نعمة الصباغ ويذكر برهوم اسماء معلِّميه ومعظم أسماء أولاد صفِّه والصُّفوف الأعلى منه “والأدنى” منه وهذا وإن بدا عاديًّا فإنَّه جزء من الذَّاكرة الجماعيَّة التي لا نريد لها أن تضيع.
نتعرَّف من صفحات الكتاب، بشكل سلس شيِّق على أحياء المدينة في فترة الانتداب، وعلى بعض شوارعها ونعيش تلك الأيَّام ونحن نمرُّ بها اليوم وقد تغيَّرت أسماؤها واختفت معالمها القديمة ،فهناك أحياء لم يبق منها الا الاسم، كوادي الصَّليب واختفت اسماء شوارع الحيِّ كشارع أبي العلاء المعرِّيِّ، عمر ابن الخطَّاب، وخالد بن الوليد، وهارون الرَّشيد، وحاتم الطائيِّ، واليرموك واليمن..
أمَّا بحر حيفا فله نصيب الأسد، من وصف لشاطئ البوتاجي وتلِّالسَّمك وابو نصُّور، حيث يغرق القارئ في بحر من الوصف الجميل “هل سيعود إميل البوتاجي وشقيقاه ثيوفيل ووليم إلى تلِّالسَّمك..فيجلس أحد الأخوة يراقب البحر والصَّيَّادين العائدين..وما أكثر هِبات ربِّ العباد على العباد في هذا الشَّاطئ وما أكثر “سلاطعينه وأخطبوطاته، أصدافه وما أطيبها وما أشهاها، زد على ذلك وفرة الأصداف البحريَّة التي كانت تؤكل نئيِّة بدون طهيٍ كالتُّوتياء والبطلميس والحلزون البحريِّ وفواكهالبحر”، “هل سيجد أبو نصُّور مكانًا لجلوسه ليدخِّن نرجيلته على شاطئه الشعبيِّ مع كأس شاي أو كأس من “حليب السِّباع” قرب مستشفى حمزة الحكوميِّ..”
أما صور العودة التي يطرحها كاتبنا فهي قمة في الرَّوعة ويطرحها بشكل تساؤلات يفهم منها الشَّغف لتلك الأيَّام والأمل في عودتها يومًا:
هل سيعود عمَّال القطارات لترميم..
هل سيعود إميل البوتاجي..
هل سيجد أبو نصور مكاناً لجلوسه..
هل سيعود أبو معروف إلى حانوته في سوق الشوام..
هل سيعود أبوغلامبو ليرقص بلباسه و” دناديشه”..
هل سيعود الغجر لبرامجهم التَّرفيهيَّة أيَّام الأعياد والمناسبات..
هل سيعود ذلك الأرمنيُّ إلى ساحة الخمرة ليبيع وابنته أقراص الكبَّة….
هل ستعود عائدتنا إلى شارع ياقوت الحمويِّ..بعد أن غادرت الوطن من أجل الوطن
وهل سيعود أهل حيفا لترميمها كما كانت وأفضل..
أسلوب د. خالد السَّرديِّ مميَّز وتستطيع معرفته حتى لو لم يكن الاسم مكتوبًا فالقصص الممتعة تشكِّل لبنة من لبنات كتابته وهي مأخوذة من الواقع الذي عاشه والده وأجداده وهم عيِّنة من المجتمع الذي عاشوا تفاصيله.
الاستشهاد بالآيات القرآنية وبشكل موفَّق يعبِّر عن الهدف الذي صبا إليه. وهذا في المصطلحات الأدبية يعتبر إشارات ثقافية تثري النَّص وتجعله ثقةً لقارئه ومقيِّمه وعلى سبيل المثال لا الحصر” فاستوصوا بالنساء خيرًا” ، ” ولا تفرَّقوا”، “ولا تستوي الحسنة ولا السَّيئة ” “..يوم لابيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة..”.
كذلك يرى في شعر المقاومة إشارات ثقافيَّة تؤكِّد ما يأتي به من مواقف وأحداث فيستشهد بنزار قباني حين يقول:
ولو فتحتم شراييني بمديتكم سمعتم في دمي أصوات من راحوا.
ومحمود درويش:
عودوا أنَّى كنتم
غرباء كما أنتم
فقراء كما أنتم
يا أحباب الموتى عودوا
حتَّى لو كنتم قد مُتُّم.
ود. قيصر خوري :
وإذا لم تنل هذي البلاد حقوقها
فتحيا كما تحيا الشُّعوب وتسعد
فخيرٌ لها أن لا تعيش ذليلة
لأنَّ حياة الذُّلِّ للموت موردُ
عمر أبو ريشة :
كم لنا من ميسلون نفضت عن جناحيها غبار التَّعبِ
كم نبت أسيافنا في ملعب
وكبت أفراسنا في ملعبِ
شرف الوثبة أن ترضي العلى
غلب الواثب أم لم يغلبِ
وتوفيق زياد:
ونصنع الأطفال
جيلاً ثائرًا
وراء جيل
كأنَّنا عشرون مستحيل
في اللد والرملة والجليل
وسميح القاسم:
يدك المرفوعة في وجه الظَّالم
راية جيل يمضي
وهو يهزُّ الجيل القادم
قاومتُ..فقاوِم
وداود تركي:
بلد بناها الظَّاهر العمر قد صابه بغيابنا الخللُ
ترنو إلى الأحباب أعينه ويرومهم حتَّى بها الطّللُ