خدوش على صفحة هوية ملتبسة – جواد بولس
- by منصة الراي
- December 20, 2019
- 0
- 602  Views
- 0 Shares
لا أكتب هنا مقالة علمية في مسألة الهوية الفلسطينية بكلتعقيداتها وتفرعاتها وما يعتريها من خضّات وتشوّهات محزنة؛فكل ما في الأمر أنني أضع بعض “الخربشات” على صفحةتعاني، كما نشهد، بعض انكساراتها المؤلمة والمقلقة.
فلسطين تاريخ من الملابسات المزمنة
أشهد منذ سنوات كيف تتغير حياة الفلسطينيين بتسارعاسطوري؛ وأخالهم باتوا يعانون من اعراض فقر دم وطني مزمن،فيهابون، بسببه، سطوة المجهول ويلجأون، بسببه ايضًا، بعد كلهزيمة إلى خيمة الالتباس الوطني، فيحسبونها منقذهم أو قدرهمالمحتوم.
تجولت خلال أسبوع واحد في عدة مدن وقرى فلسطينية، فأرهقنيما سمعت وأوجعني ما شاهدت فيها. المقلق ان الناس تعيش هذاالواقع بحالة من استسلام طبيعي ومن دون حيلة أو قدرة علىمواجهته.
ويعتبر البعض أن الانقسام القائم بين غزة ورام الله هو مصدرالخلل والمسبب الرئيسي لفقدان التوازن الأهلي ولتمزق الهوية؛بينما أراه انا نتيجة حتمية لما سبقه من تطورات أفقدت معظمالفصائل الوطنية والحركات الدينية أدوارها الطبيعية وحوّلتها الىمجرد كائنات هشة تسوّق بضائع منتهية الصلاحيات.
يقترب العام من نهايته ولا نعرف، نحن والفلسطينيين اخوتنا، علىأي ريح سنقف؛ فالصراعات الداخلية بينهم تحتدم، وتأثيراتهاتتداعى ولا تترك أحدًا معافى أو واثقًا بالغد، وتحت أي سقيفةسيكون موعدنا.
نابلس، هوية من نار
شهدت جامعة النجاح الفلسطينية، في الحادي عشر من الشهرالجاري، حدثًا أقل ما يقال في تداعياته أنه محرج ؛ لكنه أكثرتعقيدًا وعمقًا واستفزازًا.
لقد احتضنت الجامعة فعاليات ثقافية متنوعة، دامت ستة عشريومًا، تحت عنوان، يا للعبث، “مناهضة العنف ضد النساء”.
من الطبيعي أن تقوم مؤسسة بمكانة وحجم جامعة النجاحبالتحقق من هويات جميع الفرق والفنانين المدعوين للمشاركة فيهذا المراثون الاجتماعي الثقافي، الذي اطلق، ربما بلحظةرومانسية، ضد ممارسة العنف بحق النساء في مجتمعنا، ودعمًالمكانتهن الطبيعية. ولا يعقل أن يبرر عميد كلية الفنون الجميلة،الدكتور غاوي غاوي، قرار ادارة الجامعه بايقاف عرضفرقة عشتار بالطريقة التي تم بها لأنه لم “تكن تتوفر لديها المعلومات الكافيةعن شكل عرض “عشتار” ولكل مجتمع خصوصياته وقوانينهوانظمته التي تتناسب مع عاداته وتقاليده”.
وحتى لو فوجئت ادارة الجامعة “بشكل العرض”، كما قرأنا، لاتملك هي حق اعتراضه “على الهواء” ولا مخاطبة الحضوربالطريقة المهينة، كما حصل، وذلك حتى لو آمن الدكتور غاوي بأن”هذه الجامعة تحترم نفسها وهذه الجامعة لها قوانينها …الليعاجبه عاجبه واللي مش عاجبه ميجيش على الجامعه”.
رغم ما أثاره هذا الحدث من امتعاضات وانتقادات – شاعت فيالأساس ضمن هوامش محصورة يتابعها ويتأثر بها بعض المعقبّينفي وسائل التواصل الاجتماعي – بقيت تفاصيله بعيدة عنهواجس الناس ولم تستدِر، كذلك، مواقف معظم الحركاتالسياسية الفلسطينية وقيادييها؛ ولم تحرك “دماء” غالبيةالمؤسسات المدنية المنتشرة في ارجاء فلسطين التاريخية، التي كانمن المتوقع ان تتصدر الواجهات وتشجب ما جرى في الجامعة.
فاجأتنا، في المقابل، ادارة الجامعة باصدارها بيان قالت فيه “انما حدث في حفل اختتام فعاليات 16 يومًا لمناهضة العنف القائمعلى النوع الاجتماعي، لا يمثل سياسة الجامعه” واضافت أنهاشكلت لجنة تحقيق لتقف على جميع الملابسات التي حدثت خلالالحفل.
تبقى اذن قضيتنا في فلسطين المحتلة معلّقة الى أن نتعلم فنالوقوف على أنف الملابسات.
كفرياسيف، ومشهد الموت
قبل بضعة أعوام توفي أبو العبد بعد اصابته بمرض عضال لميمهله طويلًا. كان أديبًا وسيمًا ودمثًا. أحبه أهل القرية وتنافسواعلى منادمته، فلقد عاش بقلب مفطوم على حليب حب الناس وعلىطيب معاشرة الفقير قبل الغني.
بانتشار نبأ وفاته سكن الحزن شوارع القرية وتعطلت ساحاتها. دقت اجراس الكنيسة موسيقاها الحزينة معلنة بدء طقوسالجنازة. امتلأ صحن الكنيسة بالمشيّعين، وبعضهم حضر من قرىومدن قريبة وبعيدة.
مشينا وراء النعش المحمول، بالتناوب، على اكتاف بعض اصدقاءالراحل وعلى اكتافنا، نحن ابناء عائلة الفقيد.
في منتصف الطريق همس باذني ابنه الباكي سائلًا عن بعضأصدقاء والده الذي توقع مشاركتهم في الجنازة. أجبته بهدوء انناحتما سنجد العم ابا حسين ورفاقه ينتظرون مع آخرين في محيطالمقبرة. تقبل العبد جوابي ولم يستزد؛ فهو، على ما يبدو، لم يكنيعرف ولم يشعر، لبعده عن القرية، أن كفرياسيف التي عشقهاوالده قد استُهدفت وقد نخرها بعض العطب.
أصابها الجهل كما أصاب أخواتها الفلسطينيات ونخختها العملةوادمان الناس رائحتها العفنة، فصارت قرية عاجزة عن حمايةأهلها، ومجتمعًا متقوقعا يتنفس بدون مناعة ويقبل القسمةوالتشظي، تمامًا كما حصل مثلًا في “مشهد موت” ابي العبد،الذي عمل على اخراجه صاحب فتوى دينية قضت، بدون التباس،بأن تتحول الجنازات في قرانا إلى طائفية.
كفرياسيف، في مشهد الورد
بتزامن مع حادثة “عشتار” في جامعة النجاح، وبعد مضيسنوات على مشهد الموت الجليلي، احتضنت قرية كفرياسيفنشاطا ثقافيًا اجتماعيًا اقتصاديًا كبيرًا يرعاه مجلسها المحليللمرة الثانية تحت اسم “كريسماس ماركت 2019″؛ وذلك فياشارة الى ان البلدة ستستمر “اذا ما استطاع اهلها الى ذلكسبيلا”، في تنظيم هذه الفعاليات كما يليق بمواسم الابداع والفرحوبقيمتهم الانسانية المطلقة” .
استمرت الاحتفالات أربعة أيام وليال، شاركت فيها قطاعات واسعةوشرائح عديدة من داخل البلدة، الى جانب عشرات آلاف الزائرينالذين وفدوا اليها من جميع أنحاء البلاد؛ كما واعتلت مسارحهافرق الرقص والتمثيل وعدد من المغنين والمغنيات، فتحول مركزالقرية الى مسرح واحد كبير تتحرك في جنباته الجموع بسعادةوبطمأنينة تخلو منها أسواق أوروبا الميلادية أو ساحات امريكا أوحتى “مولات” دبي وبيروت التقليدية.
لم يفتش الناس الآتون إلى ليالي كفرياسيف عن آلهة ليقاتلوها ولاعن ربات كعشتار وعناة، بل صنعوا من أحلامهم قبابًا وحلقوامنها، بدون أي التباس، نحو شطآن الأمنيات.
ذكريات هوية
ولدت في كفرياسيف في سنة “العدوان الثلاثي”؛ وعشنا فيهاأيامًا جميلة وصعبة. اشتهرت قريتي الصغيرة بمكانتها الثقافيةالفريدة وبحب أهلها للعلم وعشقهم للحرية. فتن الكاتب الكبير اميلحبيبي بالقرية وبمناعة سكانها الوطنية، فصرخ من حرقته، فيأواخر خمسينيات القرن الماضي ونادى “تكفرسوا يا عرب” وقصدأن يسير العرب في أثر هذه القرية ويعتنقوا هويتها التقدميةالعربية المنيعة الأصيلة. عشقها “شعراء المقاومة”، كما وصفهملاحقًا غسان كنفاني، فأطلقوا حناجرهم في سمائها سهامًا ضدالخوف، ورتقوا لنا، في وقت مبكر، عباءتنا الوطنية، ورسموا فيصدورنا معالم هويتنا السياسية.
كبرت قبل فتاوى الشقاق الطائفي وعلى هدي تعاليم حكمائها؛فكان مولانا عقلنا، الذي افهمنا ان التسامي بالعطاء، وأن الدفاععن منارتنا واجب، شريطة ألا نحرم الآخرين حقهم في الدفاع عنمنارتهم أيضًا.
غادرت القرية في منتصف السبعينيات لألتحق بالجامعة العبرية،وسكنت القدس، فاستقبلتني مثلما تستقبل المدن الجريحة “غرباءها الآخرين”. كانت علاقتنا متوترة في الخفاء، وتشبه كثيرًاعلاقة الأب مع ابنه المتبنى، حيث تنقصها دومًا صراحة الروحللروح وتفصل بين وريديهما خاصرة ضامرة تنغزها أنياب ذلكالالتباس الفلسطيني القاهر الفتاك.
كتبت مجرد خربشات، غير مرتبة، من فيض وجع ونحن نستقبلأيام ميلاد الطفل الفلسطيني الاسمر الذي دفع حياته في مشهدملتبس تاركًا لبعض العالم يقينًا ولآخرين كل أنواع الغضبوالملابسات. فكل ميلاد وانتم ونحن فوقها لا في باطنها.