بركان العنبر رقم 12 النووي – د. سمير دياب

سمير دياب

في الساعة السادسة وست دقائق من مساء يوم الثلاثاء في الرابع من آب/ اغسطس الحالي، إنفجرت شحنة نترات الأمونيوم البالغة 2750 طناً في العنبر رقم 12 داخل مرفأ بيروت، والمخزنة فيه منذ عام 2014، بعد قرار قضائي اللبناني بحجز هذه المواد الخطرة إلى حين تسوية غرامات الباخرة روسوس- الروسية التي ترفع علم مولدوفا والقادمة من جورجيا إلى موزانبيق (حسب الرواية).

في أقل من ثانية، تدمرت ثلت بيروت، وسقط لحد الآن 175 شهيداً وشهيدة، وإصابة أكثر من 6000 جريح وجريحة، وعشرات المفقودين تحت الركام وفي عرض البحر، وتشريد أكثر من 300 الف شخص من المناطق المحيطة بالمرفأ بعد تدمير وتصدع أكثر من 73 الف وحدة سكنية في المناطق المواجهة للمرفأ، عدا عن الخسائر المادية التي قدرت بحوالي 8 مليارات دولار اميركي.

الإنفجار العظيم، وقع في لحظة دفعت فيها الطبقة الحاكمة البلاد إلى حافة الإنهيار والإفلاس السياسي والاقتصادي والإجتماعي. وفي لحظة وصلت فيها معدلات البطالة إلى ما فوق 57%. وفي لحظة تفشي فيروس كورونا بشكل مهول، وبأعداد بدأت تتجاوز مئات الإصابات يومياً. وبالتالي، أمام هول الفاجعة الكبرى والضائقة الاقتصادية المستمرة كان لا بد من التحرك الشعبي السريع للمطالبة باسقاط النظام السياسي –الطائفي المسؤول بالتكافل والتضامن عن الأزمة وعن الإنفجار ونتائجه الكارثية. حيث طالب المتظاهرون بمحاسبة ومعاقبة الطبقة الحاكمة على فسادها وإهمالها، وإسقاط منظومة الفساد المتحكمة بالبلاد والعباد منذ أكثر من 30 عاماً.

من دروس الانتفاضة الشعبية التي بدأت في 17 أكتوبر 2019، أنها استطاعت بعزيمتها واستمراريتها أن تسقط حكومة سعد الحريري بعد أسبوعين تقريباً على قيامها. لتقوم حكومة تكنوقراطية برئاسة حسان دياب والتي سقطت بدورها بعد سبعة أشهر من حكمها، التي لم تقدم للبنايين سوى المزيد من التأزم الاقتصادي والنقدي والمالي، ويمكن القول أنها كانت تدور في حلقة مفرغة لحين لحظة الإنفجار المميت الذي جرفها بطريقه بعد 6 أيام من وقوعه.

مرة أخرى، هناك محاولة لاستخدام نفس استراتيجيات التقسيم الطائفي. حيث تحاول احزاب المعارضة السلطوية، استخدام الحركة الشعبية الغاضبة لتحويلها عن المطالبة بأسقاط النظام الطائفي، والإكتفاء بتغيير حكومي. لتتكرر لعبة إنقاذ النظام السياسي الطائفي التابع ، وتجديد جلدته برعاية فرنسية وحضانة أميركية ورجعية عربية.

لقد استغلت القوى الإمبريالية مفاعيل الانفجار الكارثي واستثمرته سريعاً جداً، قبل أن يفيق هرم النظام برمته من غيبوبة عجزه وغيابه التام عن الحركة والفعل، ورصد ما جرى، وكيف جرى ومن المسؤول..!؟. وذلك، للإيحاء بعودة “سوبرمان الإنقاذ”، وللضغط من أجل فرض شروط الاصلاحات الاقتصادية (بيع ما تبقى من قطاعات عامة) التي يمليها صندوق النقد الدولي، والتي لن تؤدي سوى إلى المزيد من مفاقمة مآسي البلد وتعزز دور القوى الإمبريالية المتحالفة مع الطبقة الحاكمة الفاسدة.

لم تخفِ كريستالينا جورجيفا مديرة صندوق النقد الدولي، وفي أصعب لحظات عمليات إنقاذ الجرحى وإنتشال جثث شهداء الإنفجار من تحت الأنقاض حيث صرحت ” يختبر صندوق النقد الدولي جميع السبل الممكنة لدعم الشعب اللبناني، ومن الضروري التغلب على المأزق الذي وصلته المناقشات حول الإصلاحات الحاسمة، ووضع برنامج هادف لتغيير مسار الاقتصاد وبناء المساءلة والثقة في مستقبل البلاد”.

نحن نعلم ما الذي يعنيه هذا “التصريح الواضح” عند وقوع الفاجعة الوطنية. ونعرف ما معنى “الإصلاحات” التي تعتبرها “حاسمة”. لإن شعبنا يريد هذه الإصلاحات الحاسمة لكنها تختلف جذرياً عن إصلاحات البنك الدولي الذي يقلب على بطنه منذ سنوات من أجل خصخصة القطاعات العامة، وإجراء اقتطاعات كبيرة في ميزانية الحكومةعلى حساب تخفيض أجور عمال القطاع العام وإلغاء دعم الكهرباء وزيادة الضريبة على القيمة المضافة وخفض المعاشات التقاعدية، وما إلى ذلك. يعني يريدون دفن الفقراء وهم أحياء. ولا يبالون بالشعب اللبناني.

ليس لفرنسا أو لأي من القوى الإمبريالية أخرى مصلحة حقيقية في إحداث تغيير حقيقي في لبنان. كونهم شركاء أقوياء في حماية ورعاية ودعم أمراء الفيدراليات الطائفية القائمة بعد اتفاق الطائف. وبالتالي، فإن شعبنا الغاضب الثائر المقاوم لن تنطلي عليه “العراضات السوبرمانية” للإنقاذ أو للدعم، أما الكلام عن مساعدة أميركية أو فك الحصار الاقتصادي ضمن شروط المبعوث الاميركي “ديفيد هيل” ثم يليه صديقه “ديفيد شينكر” (لعبة الشرطي الطيب والشرطي السيئ)، والتي تبدأ برسم الحدود مع فلسطين المحتلة، ولا تنتهي بنشر قوات الأمم المتحدة. فهذا يعني وصاية دولية جديدة، وإعتراف بالكيان الصهيوني، وتغيير موقع لبنان المقاوم لتسهيل إستكمال تمرير مشروع صفقة القرن.

إن إعادة إعمار بيروت وتوفير مساكن لمئات الآف المتضررين جراء الإنفجار الكبير والتعويض عن الخسائر المادية والمعنوية-مع الشكر والتقدير للمساعدات الانسانية -يمكن توفيرها من لبنان مباشرة، وإنتزاعها من الفاسدين الذين نهبوا الأموال العامة وودائع الفقراء. واستخدام هذه الأموال ضمن خطة إنتاج تنموية وطنية، وتوظيفها في خدمة بناء الوطن. فالفساد هو أحد أعراض النظام الرأسمالي الطائفي القائم على الاستغلال والمحسوبيات والزبائنية. والمطلوب اليوم، ليس إعادة إنتاج حكومة وحدة طائفية تحت أسم حكومة وحدة وطنية. فهذه الوحدة الطائفية هي المسؤولة عن التدمير وإلتجويع والافقار والمديونية والتبعية والصراعات والحروب. والمطلوب من القوى السياسية التغييرية وجماهيرها أن تبادر إلى تشكيل هيئة وطنية تدعو لقيام هيئة تأسيسة وطنية لصياغة عقد وطني حقيقي، وإدارة المؤسسات، من أجل إنتاج عقد سياسي لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية. وما دون ذلك، ستبقى الانتفاضة مشرعة أمام قوى السلطة وأحزابها وأدواتها للإنقاض عليها وشرذمتها وتصفيتها.

وللقيام بذلك، لا يمكن للجماهير الشعبية وقواها السياسية الوطنية والديمقراطية إلا أن تعمل لتنظيم صفوفها أكثر، ورسم خارطة طريقها، والتصدي لكل مفرقعات أحزاب السلطة وفبركاتها الطائفية والمذهبية.. واليقظة من مناورات القوى الإمبريالية والرجعية التي تسعى مع شركائها في الداخل إلى تفتيت وإضعاف وامتصاص الغضب الجماهيري والحركة السياسية لفرض مشاريعها التي لا علاقة لها بمصالح وحقوق الشعب اللبناني الرازح تحت ملك الموتن أما بإنفجار أو بالكورونا أو بالبطالة والجوع والقهر الاجتماعي والنفسي.

لقد ذاب الثلج وبان المرج عن حقيقة واحدة أن لا رجاء من هذا النظام القائم برمته. وإن لا خلاص إلا بثورة شعبية وطنية تطيح بحكام الموت.

دمعة ووردة لشهداء بركان العنبر رقم 12 النووي الابرار من كل الجنسيات، والشفاء للجرحى. والتحية لكافة المتطوعين والمتطوعات في ميادين الانقاذ والاغاثة وتوفير مستلزمات الصمود الشعبي.

بيروت 12/8/2020 سمير دياب

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*