في الذِّكرى الثَّامنة والثَّلاثين لانطلاقة: – جبهة المقاومة الوطنيَّة اللبنانيَّة

د. خالد تركي حيفا

وضع المؤرِّخ اسكندر عمل لؤلؤةً جديدةً، ناصعة البياض، في تاج جبهة المقاومة الوطنيَّة اللبنانيَّة، المختصرة بكلمة واحدة ذات معنى رهيف وجميل، جَمُّول، التي نحتفل في ايَّامنا هذه بالذِّكرى الثَّامنة والثَّلاثين لتأسيسها، من خلال سلسلة مقالات نُشرت عبر صحيفة الشَّعب “الاتِّحاد”، الصَّادرة في حيفا والنَّاطقة باسم الحزب الشُّيوعيِّ، وعبر موقع الجبهة الدِّيمقراطيَّة للسَّلام والمساواة الالكترونيِّ، تعكس ضوء القمرين، لتكون نجمة في سماء وطننا العربيِّ، تسطع مضيئة سماءه حالكة الظَّلام، وليلاً ديجورًا طال أمده، ومنيرة طريق الضَّالين علَّهم يهتدون وتذكِّرهم إن نسَوا، لعلَّها تنفعهم..

يُنشد الفنَّان الفلسطينيُّ وليم نصَّار من كلماته وألحانه لجمُّول، بكي دم: ويلِّي نسي جمُّول يامِّي يعدم حياتو..”

إنَّ قوَّة جمُّول تكمن في مصداقيَّة نضاله وشرعيَّة مطالبه، وحقِّه في الدِّفاع عن وطنه، بيته وعرضه وشرفه وكرامته، لذلك كانت اللُحمة الوطنيَّة، التي التفَّت حوله، حيث كان الشُّيوعيُّون اللبنانيُّون، الحزب الشُّيوعيُّ ومنظَّمة العمل الشُّيوعيِّ، عمودَه الفقريِّ، بعد ان اصدروا بيانهم الاوَّل، التَّأسيسيَّ في السَّادس عشر من شهر أيلول عام الف وتسعمائة واثنين وثمانين، موقَّعًا باسم الرَّفيقين جورج حاوي ومحسن ابراهيم، في بيت الشَّهيد كمال جنبلاط، داعيًا، جميع الفئات الوطنيَّة اللبنانيَّة لوضع الخلافات والاختلافات الأيديولوجيَّة والطائفيَّة والمذهبيَّة والطَّبقيَّة جانبًا، لأنَّ حرِّيَّة الوطن فوق كلِّ اعتبار، وكان النِّداء موجَّهًا لأهل بيروت ولبنان: ” يا أبناء بيروت البطلة، يا أبناء شعبنا اللبنانيِّ العظيم في الجنوب و الجبل و البقاع والشَّمال، أيها المقاتلون الوطنيُّون الشُّجعان”، دعاهم الى الانخراط في النِّضال ضدَّ المحتلِّ الغاصب الذي وضع نُصب عينيه منذ احتلال فلسطين ان تكون حدوده الشَّماليَّة نهر الليطاني، لذلك فانَّ الذَّود عن حياض الوطن ليكونَ بلدًا عربيًّا “موحَّدًا مستقلاً حُرًّا سيِّدًا”، وواجب الدِّفاع عن الوطن هو “أقدس واجب” وهو “الشَّرف الحقيقيُّ”. وانضمَّ بعد هذا النِّداء الحزب السُّوريُّ القوميُّ الاجتماعيُّ، فكانت أوَّل عمليَّة فدائيَّة في ليلة الواحد والعشرين من أيلول، “واستهدفت العمليَّة دبَّابتين اسرائيليَّتين ومجموعة من الجنود في شارع مار الياس لجهة الزَّيدانيَّة، قرب صيدليَّة بسترس، وكانت نتيجة القاء قنبلتين على الهدف، مقتل وجرح ثمانية جنود اسرائيليَّين” وسقط أوَّل شهيد شيوعيٍّ، جورج تامر قصابلي.

لقد صدر بيان جبهة المقاومة الوطنية في صحيفة النِّداء فقط، صحيفة الحزب الشُّيوعيِّ اللبنانيِّ، حيث لم يتوقَّع أحدٌ جهوزيَّة أحزاب الحركة الوطنيَّة بهذه السُّرعة، بعد خروج أبطال الثَّورة الفلسطينيَّة من بيروت..

لقد ثابر المؤرِّخ اسكندر عمل، ودأب ان يكتب دراسته المهمَّة بشكلٍ علميٍّ جامعيٍّ واكاديميٍّ لتكون وظيفة جامعيَّة، حيث كان ينهل ويستقي معلوماته من رأس النَّبع، ارشيف الصُّحف في مكتبة جامعة حيفا، حيث كان يسافر الى هناك كلَّ يوم اربعاء، ولساعات طويلة، غارقًا في الأرشيف، عائدًا الى بيته ليرتِّب المعلومات ويستخلص النَّتائج لينقلها للقارئ الذي كان ينتظر ملحق “الإتِّحاد” على أحرٍّ من الجمر (سمعتُها من عدَّة قرَّاء كنتُ قد صادفتهم)، وكذلك كان مصدر معلوماته كتاب “جذور السِّنديانة الحمراء، حكاية نشوء الحزب الشُّيوعيِّ اللبنانيِّ بين 1924-1931” للشّيوعيِّ العريق محمَّد دكروب، الطَّبعة الثَّالثة الصَّادرة في بيروت عن دار الفارابي، كذلك جنَّد وظيفته الجامعيَّة خلال دراسته وتحضيره لشهادة الماجستير في التَّاريخ العام، جامعة حيفا، في سنوات السَّبعين من القرن الغابر، عن الحزب السُّوريِّ القوميِّ الاجتماعيِّ، لهذه الدِّراسة الخاصَّة، وهي الأولى في بلادنا..

لقد نقل لنا رفيقنا ابو السَّعيد اخبار الرِّفاق الرِّفاق، الرَّفيقات الرَّفيقات، الذين اعتمدوا بماء العزَّة ودم المجد والكرامة والإباء لرفعة الوطن، فتلك الاسيرة المحرَّرة سُهى بشارة في بطولتها ومحاولتها تخليص الوطن من المأفون أنطوان لحد، والشَّهيدة لولا عبُّود واخوها الشَّهيد نيقولا عبُّود التي استشهدت وهي تزرع الألغام لمجنزرات المحتلِّ، والأسير المحرَّر انور ياسين الذي ارعب جنديَّ الاحتلال المُدجَّج بالسلاح، في عمليَّةٍ ضخمةٍ على اسم الشَّهيد جمال ساطي على مرتفعات جبل الشَّيخ، حين اختبأ المقاوم انور مضمَّخًا بالدِّماء وراء صخرة، بعد ان استشهد رفاقه، لينجو، واسروه، (آسرو وخايف منو) والطَّالب الشَّهيد رائف مشيش الذي استشهد في تظاهرة ضدَّ الاحتلال، والشَّهيدة سناء محيدلي (عروس الجنوب،  الحزب السُّوريُّ القوميُّ الاجتماعيُّ) التي استشهدت عند حاجز لقوَّات الاحتلال في الجنوب اللبنانيِّ، منطقة باتر جزين وكانت خسائر جيش الاحتلال كبيرة في الارواح، كذلك يسرد لنا عمليَّة تفجير وتدمير اذاعة العملاء “صوت الأمل” والشُّهداء هم الياس حرب، ميشال صليبا، حسام حجازي واسر المقاوم ناصر خرفان واعذوروني فقائمة الشُّهداء، أكرم من في الدُّنيا وأنبل بني البشر وقائمة الابطال الذين ما زالوا على العهد والوعد طويلة، ﴿وما بدَّلوا تبديلا﴾، وهم الخيرُ في أمَّتنا إلى قيام السَّاعة، وهم من أخْيَر ﴿أمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾..

لقد حيَّا المناضلُ والاسيرُ المحرَّرُ داود تركي الاسيرَ المحرَّرَ أنور ياسين في قصيدته “حيُّوا معي لبناننا” بعد تحريره:

ياسينُ أَنورُنا لدى ظُلُمٍ شَعْشاعُ جَهدٍ حَطَّمَ الكَرَبا

بَسَّامُ ثَغْرٍ في تَوَهُّجِهِ نارٌ تُذِيبُ الصَّخْرَ والصَّلَبا

لقد كان جمُّول الكفَّ الذي لاطم مخرز الاحتلال وقهر اسطورة الجيش الذي لا يقهر، وتشهد بيروت ويشهد العالم على نداء استغاثة جنود الاحتلال بعد أن “نضجت جلودُهم قبل نضج التِّين والعنب” عبر مكبِّرات الصَّوت “يا أهالي بيروت لا تطلقوا النَّار علينا نحن منسحبون”، (منشان الله خلِّينا ننفد بريشنا)، وذلك بعد عشرة أيَّامٍ من احتلال بيروت، بعد أن شعر جنود الاحتلال أنَّ مرجل المقاومة يحرق ارجل المعتدين ودُبرهم، إذ كان يعتمد المقاومون في غالبيَّة معاركهم المنتصرة، على عنصر المفاجأة..

يشير استاذنا اسكندر انَّ احد اسباب نجاح نضال ومقاومة وانتصار جمُّول أنَّها وجدت في اهلها ظهرًا تحتمي به، حين يلزم الامر، وبيتًا ومأوىً يأويها إن اقتضت الحاجة، وحاضنة تحميها لأنَّ “المقاومة وأهلها مثل السَّمك في الماء” حيث يكتب في مقالته “المقاومة تحتاج للسُّكَّان وانضوائهم في الكفاح من أجل التَّحرُّر الوطنيِّ، لذلك فاكتساب المقاومة لعطف السُّكَّان وتأييدهم، جعلهم ملاذًا للمقاومة وحاضنة لها، ليس هذا فقط بل إنَّ الكثيرين منهم انخرطوا تحت لواء المقاومة مدنيَّة كانت أم عسكريَّة”، فهذه العلاقة هي علاقة طرديَّة، فكلَّما ازداد التفاف الجماهير حول المقاومة ازدادت قوَّة المقاومة ونجاحها ونجاعتها، وازداد عدد المنتسبين للمقاومة واحزابها. فهي بذلك “وُجِدت لتنتصرَ”! وهذا ما يشير اليه الكاتب في فصل “تمازج المقاومة المسلَّحة مع المقاومة الشَّعبيَّة أفقد المحتلَّ صوابه”..

لقد أشار أستاذنا في دراسته إلى وحدة المسار والمصير بين جمُّول والشَّعب الفلسطينيِّ، بعد أن قامت مجموعة الشَّهيد جمال ساطي مرَّة أخرى بعمليَّةٍ بطوليَّةٍ على الشَّريط الحدوديِّ، حين كتب يقول:”بعد اندلاع الانتفاضة الأولى في المناطق الفلسطينيَّة المحتلَّة، “انتفاضة الحجر” لم تشأ المقاومة اللبنانيَّة اختيار “النَّأي بالنَّفس” التي أوجدها جبناء لبنان ومتعاونو الاحتلال، بل اختارت ان توجع المحتلَّ، في جبهةٍ أخرى، لتؤكِّد أنَّ قضية مواجهة العدوان والاحتلال واحدة..” ونحن نعرف أنَّ من يرفع هذا الشِّعار الانهزاميَّ هو نفسه الذي تعامل مع الاحتلال وكان له الصَّديق الصَّدوق الذي يدَّعي أنَّ “قوَّتنا في ضعفنا” ويريد للبنان أن يبقى تحت نعل الاحتلال وبُسطاره ويريده الآن أن يدور في فلك الإرهابيِّين والتَّكفريِّين الذين يدورون في فلك قَطَر وآل سعود وقوى الظَّلام العالميَّة وعلى رأسها أمريكا، محراك الشَّرِّ العالميِّ، ويريدون دفن العميل انطوان لحد في ثرى لبنان الطَّاهر، والآن هم انفسهم يريدون، سمير جعجع رئيسًا للجمهوريَّة، بيديه الملطَّختين بدم ابناء شعبه وشعبنا، الذين قاوموا الاحتلال ويريدون ردَّ لبنان ﴿..أَسْفَلَ سَافلِين..﴾..

لقد دأب المؤرِّخ اسكندر عمل في كتابته توثيق حقبة مشرِّفة من تاريخ الحركة الوطنيَّة العربيَّة في نضالها ضدَّ الاحتلال إذ وضع بين أيدي القارئ وثائق قلَّما نجدها في متناول اليد، مثلاً البيان التأسيسيُّ لجمُّول، أو بيان المكتب السياسيِّ بعد عمليَّات فدائيَّة قام بها رفاق جمُّول، أو نبذة عن حياة هذا الشَّهيد أو ذاك الأسير، أو نشر سرد الأسير المحرَّر أنور ياسين لعمليَّته بكلِّ تفاصيلها، أو كلمة رئيس تحرير صحيفة “السَّفير” اللبنانيَّة يوم استشهاد المناضل والمفكِّر الشُّيوعيِّ حسن حمدان، مهدي عامل..

الخُلاصة: نفَّذت جمُّول ألفًا ومائة ثلاث عشرة عمليَّة عسكريَّة، تسعمائة وسبعة ضدَّ المحتلِّ الاسرائيليِّ، ومائتان ضدَّ العملاء. وكانت خسائر المحتلِّ ما بين السنوات اثنين وثمانين والتسعين من القرن الماضي، حسب اعترافاته ثلاثمائة وتسعين قتيلاً، ومائة وستِّين جريحًا، واربعة وعشرين آليَّة. زد على ذلك خسائر العملاء..وقد قدَّم جمُّول لحرِّيَّة شعبه واستقلاله ليعيش عزيزًا، كريمًا، مستقلاً وحرًّا في وطنه مائة واربعة وثمانين شهيدًا، ليعلَّم الآخرين في وطننا العربيِّ أنَّ “مش رح نبقى عبيد، النا ميِّة هويَّة، بوحِّدنا النَّشيد وبتجمعنا التحيَّة، يا عهد الأمميَّة تحيَّة تحيَّة”.. 

فيا أيُّها الرِّفاق هذا هو زمانكم، وهذا هو مكانكم، شدُّوا الرِّحال سويَّة مع باقي رفاقكم في المقاومة لدرء الخطر عن وطننا، من أجل لبنان الذي نصبو إليه “لبنان الأخضر”، لِتحلو الدُّنيا أكثر.

لقد قدَّم الرَّفيق ابو السَّعيد لقرَّاء صحيفة “الاتِّحاد” مشكورًا ومحمودًا، وثيقةً مهمَّةً لذاكرتنا الوطنيَّة، وشهادة فخرٍ واعتزازٍ على صدورنا، لرفاق لنا نعزُّهم ونحبُّهم ونُجلُّهم، لرِفاق الدَّرب، هم أشقَّاء لنا لم تلدهم امَّهاتنا، انتم ونحن على العهد باقون الى نصرنا الآتي لا محالة!

الوطن باقٍ، والإحتلال إلى زوال، جذوة جمُّول لا تنطفئ، فإذا الشَّعب يومًا أراد الحياة وينتصر، عليه أن يتعلَّم الكثير من عبرة جمُّول….

#جمول

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*