هَذَا الوَطَنُ حَقٌّ لَهُ أَنْ يُفْتَدَى بِالدِّمَاءِ وَالمُهَجِ (فصلٌ من كتاب، من كتاب حماة الدِّيار) (إلى رفيقِنا حسين مباركي ابو فاتن في عيده التِّسعين) – د. خالد تركي حيفا

مهمَّتنا هي: الهجوم من أجل الاحتلال..قتل الرِّجال، تدمير وإحراق “الكابري وأمِّ الفرج والنَّهر” بهذه الوحشيَّة كانت الأوامر الموجَّهة لوحدات كرميلي، الكتيبة واحد وعشرين، التَّابعة للهجناه، لاحتلال هذه القُرى وإزالتها عن بكرة أبيها ومحوها أو مسحها مع الأرض في عمليَّة “بن عامي” وذلك انتقامًا لتصدِّي أهل تلك المنطقة للاحتلال بعد أن تكبَّدت هذه العصابات خسائرَ فادحة في العتاد والأرواح، بعد أن قُتل قائد الكتيبة بن عامي بِخْتِر، الذي نقل الجنود والمدرَّعات من شمال مدينة حيفا إلى منطقة نهاريا. لقد اعتبرت عمليَّة احتلال هذه القُرى أكثر وحشيَّة وأشدَّ عنفًا وأقصى انتقامًا وأحقد أمرًا من كلِّ الأوامر العسكريَّة، بعد أن كانت الأوامر، عادةً، على مستوى “دمِّرواطرد” (التَّطهير العرقي في فلسطين، إيلان بابه ص 154).

تقع قرية النَّهر شمال شرق مدينة عكّا، السَّهل السَّاحلي، منطقة الجليل الغربيِّ، حيث تبعد عنها مسافة أربعة عشر كم، على الطَّريق العام ما بين ترشيحا وعكَّا، وتتكوَّن القرية من حارتين، الأولى تسمَّى الحارة الشرقيَّة، النَّهر، والثَّانية وتقع على تلٍّ مرتفعٍ وتسمَّى الحارة الغربيَّة، تلُّ النَّهر، أو التَّل، وهاتان الحارتان توأمان في بلد واحد ولهما مختار واحد ويقع قرب القرية تلٌّ أثريٌّ يسمَّى تلُّ القهوة..

قرية النَّهر هي اسمٌ على مُسمَّى، غنيَّة بالمياه الجوفية والآبار الارتوازيَّة والينابيع العذبة المتجمِّعة في بركة الفوَّارة وبركة تلِّالمفشوخ حيث كانت تتدفَّق مياهها لتروي الأرض وتسير بغزارة لتُحرِّك أحجار رحى الطَّواحين المائيَّة، حيث وصل عدد هذه الطَّواحين إلى ثماني مطاحن، لطحن القمح والذُّرة على أنواعها وكانت تروي البساتين الغنَّاء والغنيِّة بالتَّين والدُّرَّاق والحمضيَّات والزَّيتون والتُّفَّاح والسَّفرجل، حيث كانت تُعبَّأ الحمضيَّات والفواكه في صناديق ليبيعها الفلاحون في أسواق حيفا وعكَّا وصفد وكانت الرَّوابي معطَّرة بالرَّياحين والقندول والياسمين وعصا الرَّاعي والورد الجوري، كانت القرية جنَّة على الأرض، جنَّة  تجري من تحتها الأنهار وفردوسًا مُنعِشًا من فوقه الأزهار..

ويقول الأخطل الصَّغير لتلك الرَّوابي:

يا رُبى لا تترُكِي وَرْداً ولا تُبقِي أَقَاحَا

مَشَتِ الشَّامُ  إِلى لُبنانَ شَوْقاً وَالتِيَاحَا

فَافْرُشِي الطُّرقَ قُلُوبًا وثُغُورًا وَصُدَاحَا

غُرَّة ٌ مِنْ عَبدِ شَمْس ٍتَمْلأُ الليْلَ صَبَاحَا

كانت القرية جنَّة وفردوسًا إلى أن سقطت في العشرين من شهر أيَّار من العام ألفٍ وتسعِمائة وثمانيةٍ وأربعين، وتوقَّفت الحياة فيها، ونضبت مياه الأنهار وانقطع عن مسمعنا خريره وتحوَّلت الجنَّة إلى جهنَّم بعمليَّةٍ سُمِّيَت بن عامي على اسم قائد الهجناه بن عامي بِخْتِر الذي قُتِلَ في اشتباك وقع في منطقة نهاريا، في آذار من عام ألفٍ وتسعِمائة وثمانيةٍ وأربعين،وأقيمت من بعدها على أرض القرية مستوطنة بن عامي تخليدًا له (كي لا ننسى، وليد الخالدي ص 502).

وُلِد في هذه الجنَّة الغنَّاء الخضراء، أبو فاتن، الرَّفيق حسين علي مصطفى مباركي، في العام ألفٍ وتسعِمائة وثلاثين، لوالدٍ ثائرٍ من ثوّار السّتّة وثلاثين الأبطال، قلّما كان يراه، حيث كان وإخوانه يُرابطون لدوريّات الانكليز على الطُّرُق العامّة بين عكَّا ونهاريا ويذكر رفيقنا أنّ والده حين كان مطلوبًا، ناداه وأخذه بين ذراعيْه ضامًّا، تحت شجرة الليمون في حاكورة البيت، مودِّعًا إلى بيروت للاختباء هناك ريثما يمرُّ الوقت، غاب لفترة طويلة لَم يُعرف عنه شيئًا، لكنَّه عاد بعدها، في فترة الحرب العالميَّة الثَّانية، كئيبًا، قائلاً:”براغيث التَّلِّ ولا أوتيلات بيروت” من شدَّة حبِّه لبلده وإخلاصه لها..ويُضيف رفيقنا أبو فاتن الشَّغوف في حبِّ قريته والمفتون بجمالها وروعتها حيث: “إذا لازم تصير جنَّة على الأرض لازم تصير في النَّهر”.

كان عمره في نكبة فلسطين ثمانية عشر عامًا حيث يذكر استشهاد أخيه الطِّفل، ابن السَّنة وثلاثة أشهر، وهو في حضن أخته برصاص الاحتلال، فقد زحف إليهما والده وأنقذ الابنة وسحب جثَّة الطِّفل الرَّضيع والشَّهيد، ووضعها على الأرض بعد أن غطَّاها بالحجارة، حتَّى لا تنهشها وتفترسها وحوش البريَّة بعد أن قتلت الطَّفل الوحوش البشريَّة، وبعد أن زال الخطر، مؤقَّتًا، صلَّى والده على الشَّهيد، ودفنه في المقبرة. “اللي كانوا يمسكوه حيًّا في البلد كانوا يعدموه رميًا بالرَّصاص، وأذكر أنَّني رأيتهم يعدمون شابَّين معاقين هما محمَّد عبد العال ومحمَّد راغب”.  

درس رفيقنا حسين في مدرسة القرية الخاصَّة والوحيدة، الكُتَّاب، وكانوا يتعلَّمون فيها وهم جالسون على الأرض، حفظ القرآن والحساب واللغة العربيَّة والطَّبيعة، وانتقل بعدها إلى مدرسة الكابري الحكوميَّة، حيث أنهى فيها مستوى الصَّفِّالرَّابع، وهناك رأى لأوَّل مرَّة في حياته الدِّراسيَّة مقعدًا وطاوِلةً حُفِرَ فيها شكلٌ دائريٌّ لوضع المحبرة، حيث كانت الكتابة بالرِّيشة والمداد. ويذكر أستاذَه جمال الطَّاهر، من نابلس، الذي كان يعشق وطنه وكرة القدم فقد لعبوا معه كثيرًا كرة قدم، حيث كان في النَّهار أستاذًا وفي المساء صديقًا، وقد حفَّظهم عن ظهر قلب قصيدةً وطنيَّةً، يذكرُ أبو فاتن مطلعها:

هَذَا الوَطَنُ حَقٌّ لَهُ أَنْ يُفْتَدَى بِالدِّمَاءِ وَالمُهَجِ

عَارٌ عَلَيْنَا أَنْ نَنَامَ ونُضِيعُ مَجْدًا لَمْ يُضَم

هُبُّوا وَلَو ذُقْنَا الحُمَامَ بِالرُّوحِ نَفْدِي بِالرُّوحِ نَفْدِي ذَا الوَطَن

وكان يُحذّرهم بألا يُنشدوه بحضور الشُّرطة خوفًا وحذرًا..

“أذكرُ أنَّهم فجَّروا بيت فارس سرحان أفندي، حيث كان من الزُّعماء والقوميِّين العرب، وهرب بعدها إلى لبنان،كان هذا في العام ألفٍ وتسعِمائةٍ وسبعةٍ وأربعين  كذلك أذكر كيف أحرقوا حافلة ركَّاب عند قرية جدِّين بعد أن أنزلوا منها ركَّابها وأُجبِروا بعدها تكملة الطَّريق مشيًا على الأقدام، وفي حادثة أخرى رأيتُ كيف أطلقوا النَّار على ثمانية من شباب الزِّيب لا شبق لهم ولا عبق في المقاومة وذلك انتقامًا لخسارتهم في المعركة هناك، أنا لا أذكر أنَّنا حاربنا أو أردنا الحرب بل أذكر أنَّه بدأت فرقة أردنيَّة من جيش الإنقاذ الهجوم على المستوطنات وحين علا وطيس النَّار هربت الفرقة وبقينا لوحدنا، ثمَّ لوحدنا بدون حماية وتحت رحمة نار الهجناة”.

هُجِّروا من القرية وهم لا يملكون شيئًا سوى ثيابهم إلى قرية أبو سنان، حيث كانت قليلة البيوت، فتركوها إلى ترشيحا، التي لَم تكن قد سقطت بعد، وسكنوا عند معارفهم هناك، لكن عندما اشتدّ القصف على قرية ترشيحا وسقطت هي الأخرى، قرَّر والده العودة إلى أبو سنان، حيث سكن مع تسعة أنفار، أبناء عائلته، في غرفة صغيرة جدًّا عند أخت الخوري نجيب طيِّب الذِّكر، نجيبة، وكانوا يتسلَّلون إلى قرية النَّهر بحثًا عن أشيائهم وأغراضهم وممتلكاتهم ليُحضِروها إلى بيتهم الجديد!

“يجب أن أُنصف الخوري نجيب، لقد كان هذا الخوري مثالاً يُحتذى به، وطنيًّا شهمًا 

من الدَّرجة الأولى، وجدعًا وقبضاي أحبَّ أهلَ البلد الكرام حتَّى النُّخاع وأخلص لهم”..

يذكر رفيقنا، أبو فاتن، كيف وشوا للحاكم العسكريِّ عن وجود أربع بنادق عند والده، حيث أرسل رجال الشّرطة في الحال، وطوَّقوا البيت طالبين والده، لم يكُن آنذاك في البيت، فقد أخفاه الخوري نجيب عنده، وأرادوا اعتقال الابن رهينة بدلاً من الأب، لكنَّ والدته رفضت ذلك بإصرار وقاومت بقوّةٍ اعتقال مُهجة قلبها، والتزمت وتعهَّدت بحضور زوجها، أبي حسين، إلى مركز الشُّرطة في اليوم التَّالي، وفي الغد وقبل مثوله أمامهم في المركز، حضر طيِّب الذِّكر الرَّفيق خليل عيسى خوري، أبو سخي، مُنبِّهًا ومُحذِّرًا ومُعلِّمًا، “ايَّاك والاعتراف بشيءٍ، فش أيش تخسر وفش أيش تحكي وما عليك إلا الصُّمود وعدم الخوف” وحين بدأ المحقِّق الشويلي أبو خضر بالتَّحقيق أنكَر والده الاتِّهام وكفر بالتُّهمة على مسمع شاهد راعي غنمٍ، من دير القاسي، الذي أحضروه لتلفيق الملفِّ، لا يعرف المنطقة ولَم يعرف كم تبعد أبو سنان عن دير القاسي، أو حتى أين تقع، وبهذا فنّد والده كل التّهم وهوت عصا المحقِّق على ظهر الرَّاعي، الشَّاهد، الذي لَم يُتقن روايته وحُرِّر المتَّهم، أبو حسين، بعدها.

وهكذا تعرَّف رفيقنا أبو فاتن على أوَّل شيوعيٍّ في حياته، أبي سخي، وبدأ معه

بتوزيع صحيفة الاتِّحاد في أبو سنان وبدأ يقرأها لنفسه ولوالده المُتعطّش للمعرفة، فقد كان قبل الاحتلال، وهو في جيل العاشرة، يقرأ الصُّحف الفلسطينيَّة “الدِّفاع” و”فلسطين”، لوالده، حيث يذكر أنَّ والده كان يحضر محاضرات إميل توما جميعها وكان يحبُّ الجلوس في أوِّل القاعة عطشًا لسماعه وسماع تحليله وجديده.

معروف أنَّ أبا سخي، كان عضوًا في عصبة التَّحرُّر، وقد سكن في قرية البعنة بعد أن هُجِّر من البروة، وبناءً على طلب الرِّفاق هناك، انتقل ليسكن في قرية أبو سنان لبناء فرعٍ للحزب الشُّيوعيِّ فيها وهكذا كان أبو فاتن أوَّل رفيق منتسبٍ للحزب في القرية، وكان الفرع مكوَّنًا من عضوين، أبو سخي من البروة وأبو فاتن من النَّهر، “كنَّا قلائل لكنَّنا كنَّا فعالين” كقول السَّموأل بن عاديا:

تُعَيِّرُنا أنّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا

فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الكِرَامَ قَلِيلُ

“منعت الرَّقابة مرّةً صدور صحيفة الاتِّحاد وصدرت لمرَّة واحدة باسم “المهماز”، ووقفتُ مع أبي سخي، نجمع التَّواقيع على عريضة تضامنٍ مع الصَّحيفة ونجمع التَّبرعات لدعمها، وذلك ساعة المساء، ساعة حلَّة العمَّال، الذين أنهوا للتوِّ من عملهم الشَّاق، كانت جرأة الشُّيوعيِّين واضحة وظاهرة للعيان، وكان تجاوب العمَّال كبيرًا، كنَّا نكفر بالأنا ونؤمن بنحن، كان بيننا وبين رفاق كفر ياسيف تعاون تامٌّ ولاطمت أكفُّنا المخرز، ولعنَّا اللي عملو، ببطولة وعناد وإصرار وهذه  ليست بطولة منِّي بل بطولة من تربية الحزب لنا”.

كان الحاكم العسكريُّ يُعطي تصريحًا لثلاثة عمَّال من بين الجموع الحاشدة، المنتظرة الفرج لأخذ تصريح عمل يضمن لها لقمة العيش بشرف، تحت أشعَّة الشَّمس الحارقة ويسرِّح الباقي على أن يعودوا في اليوم التَّالي، “لقد كانوا مسيطرين على الخبز وأرادوا التَّحكُّم فينا من خلال تحكُّمهم هذا في كلِّشاردة وواردة”..

يُتابع أبو فاتن حديثه: “تعرَّفتُ على الرِّفاق جمال موسى، نديم موسى، حسين الصَّفدي، يعقوب الياس، صالح إدريس ورمزي خوري حين انتقلت للسَّكن في مدينة عكَّا، عام ألفٍ وتسعِمائة وستَّة وخمسين، وهناك تعرَّفت على زوجتي، نفيسة، من مواليد مصر، حيث كان والدها سائق قطارٍ، ففي عام النَّكبة بعث الملك فاروق باخرةً لرعاياه يحثُّهم فيها على العودة إلى مصر، بعد أن سلَّموا البلاد، لكنَّ الأحداث أخذته على حين غرَّة ولم يستطع الإبحار مع عائلته وبقوا في فلسطين التي أصبحت وطنهم الثَّاني التّوأم..”.

تعرَّف على زوجته نفيسة بعد مشاركته في مظاهرة الطَّحين التي نظَّمها الحزب الشُّيوعيُّ، منطقة عكَّا، بالاشتراك مع حركة النِّساء الدِّيمقراطيَّات هناك وذلك بعد أن انقطع توزيع مؤن الطَّحين بواسطة بطاقات التَّموين، ووزَّعوا مكانه خبزًا إفرنجيًّا، فقامت المظاهرة تحت شعار “بدنا خبز بدنا طحين” وهناك من نادى “بدنا ليخِم بدنا طحين” ومن بين الرّفيقات اللواتي اعتُقلن بعد أن شاركن في المظاهرة وصحن بأصواتهنَّ العالية في هذا النِّداء الأوَّل: زوجتي نفيسة عجمي مباركي حيث كان عمرها سبعة عشر عامًا، ابتهاج خوري، سلوى موسى، نجيبة غطَّاس وعريفة صفدي وغيرهن..

حين أقدم الشَّاويش زيدان نمر على ضرب المعتقلات بالعصا، قامت الرَّفيقة نفيسة ورفسته برجلها رفسة أليمة أنسته الحليب الذي رضعه، إن كان قد رضع مرّةً من حليب أمّه؟ وقال لها: قتلتني..

وأُعجِبَ أبو فاتن ببأسها الشَّديد ومراسها القويِّ وأحبَّ شجاعتها ومروءتها

وحظي بتلك الفتاة التي سحرته وكان نصيبه جميلاً حيث تزوَّجا لاحقًا وأنجبا فاتن وحنان وغادة ونجوى وعامر.

بعد أن انتقل الرَّفيق حسين مباركي إلى مدينة عكَّا، كان يعود إلى أبو سنان أيَّام الجمعة ليُعاون أبا سخي في توزيع صحيفة الحزب، كانت آنذاك أسبوعيَّة. كانا يحثَّان أهل البلدة على القراءة وشراء الصَّحيفة ليعرفوا “وين الله حاططهم”، وقد حصل الحزب على خمسة وتسعين صوتًا في أوَّل انتخابات للكنيست بعد النَّكبة، وتوسَّعت صفوف الفرع في أبو سنان بعد انتساب رفاق ورفيقات من كافَّة طوائف البلدة حتَّى أصبح من أكبر وأقوى فروع الحزب والجبهة في منطقة عكَّا وهكذا بدأ الفرع من عضو واحد، أبي سخي، وأصبح كبيرًا مُشيَّد الأركان متراصَّ البنيان رافعًا راية الحزب فوق هام المجد..

اشتغل بعدها في دائرة الصِّحَّة، قسم الوقاية من الحشرات والزَّواحف، في البلدات والكيبوتسات المجاورة لمدينة عكَّا، “وأذكرُ يومًا، أن أتاني رجل وأنا على درَّاجتي طالبًا منِّي، بعد أن قال لي أنَّه يعرف عنِّي وعن زوجتي كلَّ شيء، أنَّهم لا يريدون منِّي شيئًا سوى أن أُخبرهم ما يجري داخل اجتماعات خلايانا الحزبيَّة، وأجبته ما فشرت عينك، إنسَ هذا الموضوع، وبعدها طردوني من العمل وحين رفعتُ دعوى مطالبًا بتعويضاتي، رفضوا طلبي ودفَّعوني تكاليف المحكمة، ستِّين ليرة آنذاك، بحجَّة أنَّ عملي كان موسميًّا وليس على مدار السَّنة، وسحبوا منِّي تصريح العمل العاديِّ والعسكريِّ لأنَّ العمل على الحدود كان جزءًا من عملي ويتطلَّب منِّي إصدار تصريح عسكريٍّفضلاً عن التَّصريح العادي، لتلك المنطقة”.

وحتَّى سنَّ التَّقاعد عمل أبو فاتن في مصنع البلاستيك في المنطقة. الرَّفيق حسين علي مصطفى مباركي، أبو فاتن، هو ابن ثائر مغوار من ثوَّار السِّتَّة وثلاثين، هو أخُ شهيد طفل قتلته العصابات الصَّهيونيَّة وهو في حضن أخته في نكبة شعبنا لإرهاب السُّكَّان وحثِّهم على ترك البلاد بعد تخويفهم، هو لاجئ يحلم بالعودة إلى جنَّة الكون على الأرض، النَّهر، يعمل من أجل العودة إليها بإصرار وإرادة وتصميم وتنظيم في إطار الحزب الشُّيوعيِّ وجبهته، هو زوج بطلة رفيقة لاطمت مخرز الشَّاويش وكسرته، هو عامل يُناضل من أجل رفاه العمَّال والفلاحين وإعطائهم حقَّهم في العيش بشرف وكرامة، هو إنسان بكلِّ ما في الكلمة من معنى..

وجد الرَّفيق أبو فاتن في الحزب الشُّيوعيِّ، بعد أن انتسب إليه، بيته وصوته ومنبره ومنصَّته وفنارته ومنارته، هذا الحزب علَّمه الشَّجاعة والبطولة والبأس والاصرار، فكفر بمفهوم الأنا ليكون العمل جماعيًّا ديمقراطيًّا ومتناسِقًا، وشعرتُ في حديثه الجميل والجيَّاش أنَّه يُكثِر من استعمال “كُنَّا وعملنا وأردنا.. “لأنّه يرى أنَّ الحقَّ مع الجماعة ناكرًا وصفه بالبطل لأنَّ البطولة هي لمن صنعها ومن صنعها هو ذلك الحزب الطَّليعيُّ المدافع عن حقوق المظلومين والمضطَّهَدين، الحزب الشُّيوعي.

نتمنَّى لرفيقنا وجميع أفراد عائلته، فردًا فردًا، الصِّحَّة والعافية والعقل السَّليم والعودة إلى النَّهر ليستعيد ما يملك من أراضٍ وبساتين كما تدلُّ على ذلك الكواشين التي ما زال يحتفظ بها في قلبه ويصونها في جيب قمباز والده، كذلك نتمنَّى لأبي فاتن مزيدًا من العطاء والمروءة والنِّضال من أجل رفاهيَّة العامل والفلاح ووعدًا صادقًا أنَّنا على هذه الدَّرب لا نخلف الميعاد.

ونهتف مع أبي فاتن، هذا الشّيوعيّ العريق، عاليًا قول الشَّاعر المناضل داود تركي أبي عايدة، في قصيدته رفرف لواءك وانتصِب أيَّارُ:

أُولئِكَ الظُّلاّمُ أَصْلُ بلائِنَا

يجْتَثُّهُم من عيشِنَا الإعصَارُ

أَنتَ السَّبيلُ إلَى الخلاص منَ الوَبَا

وَنُفُوسُنَا لِبَهَائِكَ الإزْهارُ

مَا عادَ فِينَا للتَّرَاجُعِ طَاقَةٌ

أقْدِم عليهِم واقْتَحِم أيَّارُ

وَكُنْ المؤدِّي ظُلْمَهُم لِنِهايةٍ

أنتَ الوَحيدُ وعَزْمُكَ المِقْدَارُ

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*